مكتبة الإسكندرية.. بانوراما حضارية مصرية باتساع العالم

مكتبة الإسكندرية.. بانوراما حضارية مصرية باتساع العالم

27 يونيو 2015
منارة ثقافية وأكبر صرح للقراءة (Getty)
+ الخط -


أنشئت مكتبة الإسكندرية الحديثة في الموقع نفسه الذي بُنيت فيه المكتبة القديمة العائدة إلى القرن الثالث ق. م، والتي كان بطليموس الأول (سوتر)، أوّل ملوك البطالمة الذين توارثوا حكم مصر، قد أمر ببنائها. أما المؤسّس الحقيقي للمكتبة، وصاحب الفضل في نهضتها وازدهارها، فهو بطليموس الثاني (فيلادلفوس)، الذي حكم مصر من عام 285 إلى 246 ق. م. فهذا الرجل هو الذي وضع نظام تلك المكتبة العريقة، وهو الذي جلب لها العلماء من أنحاء العالم، وجمع بها ما كان في مكتبات المعابد المصرية، ثم ازدادت أعداد كتبها حتى زادت على 700 ألف مجلد.

وترجع شهرة المكتبة إلى كونها أعرق مكتبة حكومية عامة في العالم القديم. كما ترجع عظمتها إلى عظمة القائمين عليها، حيث كان لزاماً على كلّ عالم يدرّس بها أن يودع فيها نسخة من مؤلفاته. وهي حوَت كتب الحضارتين الفرعونية والإغريقية، ما أدى إلى امتزاج علوم الشرق والغرب داخلها. وقد عرفت الأجنحة المتخصصة التي تضم مكتبات الشخصيات الثقافية البارزة في المجتمع، فاحتوت على المكتبة الخاصة بأرسطو كاملة، ومكتبة هوميروس وغيره من كبار الفلاسفة والمفكرين الذين قامت عليهم نهضة الإمبراطورية الرومانية.
ولم تكن تلك المكتبة مجرد مخزن لتجميع الكتب أو قاعة لمطالعة ما تضمه رفوفها، بل كانت معهداً تعليمياً متميزاً، درس فيها كل من إقليدس (صاحب النظرية المشهورة باسمه في علم الهندسة المستوية) وأرخيميدس (صاحب قانون الطفو، ومخترع آلة رفع المياه: الطنبور)، وجالينوس (الذي كان رائدا في فن الطب والتشريح)، بالإضافة إلى إراتوستينوس Eratosthenes (الذي أثبت أن الأرض كروية، وكان أول من قام بحساب قطرها)، وغيرهم.

وكانت المكتبة القديمة تضمّ متحفاً (عرف باسم الميوسيون)، وهو عبارة عن مبنى يقيم فيه العلماء المتخصّصون في كلّ الفنون. أما خزانة الكتب نفسها فإنه لما ازداد حجمها، أصبح من الضروري إنشاء ملحق على مقربة منها. ولهذا، أمر بطليموس الثالث (إيورجيتس Euergetes) في عام 235 ق م بإنشاء ذلك الملحق على هضبة حي راكوتيس (حي كرموز حالياً) مكان معبد وثني.

حافظ الأباطرة الرومان على المكتبة، وطوّروا تجهيزاتها، بتزويدها بنظام تدفئة مركزية، للحفاظ على جفاف الجو داخل مخازن الكتب الموجودة تحت سطح الأرض.
أحرقت المكتبة ودمّرت تماماً أثناء حملة يوليوس قيصر على مصر عام 48 ق. م. وأعيد تجديدها، ثم تعرّضت لأكثر من حريق، وكان آخرها الحريق الذي وقع في اضطرابات سنة 391 م، حين قام الإمبراطور الروماني ثيودسيوس الأول بإصدار أمر بالقضاء على الوثنية، فجمع بطريرك الإسكندرية ثيوفليوس الغوغاء، فهجموا على معبد السيرابيوم ومكتبته ودمّروهما.

وقد ذكرت بعض المراجع العربية المتأخرة أن عمرو بن العاص هو الذي حرق مكتبة الإسكندرية، وهو قول لا سند له، فلم يكن للمكتبة أي وجود في عام 642 م، عام دخول العرب المسلمين إلى مصر.

على الرغم من اندثار مكتبة الإسكندرية القديمة، فإن ذكراها ظلّت حيّة في أذهان عاشقي العلم، وظلّ حلم إعادة بنائها يداعب مخيّلة الكثيرين. ولم يصبح هذا الحلم حقيقة إلا في العصر الحديث. فقد طرحت فكرة إحياء هذه المكتبة في أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين، حين قامت منظّمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة بالدعوة للمساهمة في إنشاء هذه المكتبة من جديد. وعقب ذلك، قامت الحكومة المصرية بتأسيس الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية، وإجراء مسابقة دولية لتصميم المكتبة، حيث فازت بها شركة نرويجية. وقد صمّمت لتكون امتداداً لسابقتها، بحيث تستهدف التأكيد على مفاهيم التواصل بين الثقافات، وعلى التعدّدية الفكرية، وإشعاع العلم والمعرفة. كما راعى مصمّموها أن يكون تكوينها شاملاً، بحيث تتوافر فيها مجالات المعرفة كلها، فتتضمن مراكز للبحوث، ومعارض للفنون، وقاعات للمؤتمرات والندوات، وقواعد للبيانات الإلكترونية. وقد اشتمل تصميم المكتبة الجديدة على عشر طبقات، تقع ست منها فوق الأرض، في حين تقع الطبقات الأربع الأخرى تحتها لحماية محتوياتها من عوامل البيئة الخارجية.

ويشمل مجمع المكتبة أيضاً مركز المؤتمرات الذي كان قائماً قبل إنشاء المكتبة. كما أنشئ بالقرب من هذا المجمّع متحف علمي وقبة سماوية. وفي مايو عام 1995 بدأ العمل في تشييد المكتبة. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2002 تمّ افتتاحها في احتفال كبير حضره ملوك ورؤساء عدد من الدول التي شاركت في دعم مشروع المكتبة.
وقد حرص القائمون على إدارة المكتبة الجديدة تكريس كلّ جهودهم لإعادة روح المكتبة القديمة، بحيث تضمّ التراث المصري والإنساني والثقافي العالمي، وأن تكون مركزاً للتعلّم والتسامح ونشر قيم الحوار والتفاهم.

ولعلّ أهمّ ما يميّز المكتبة هو البانوراما الحضارية Culturama، وهي عبارة عن عرض للتراث الثقافي المصري، حيث تمّ ترتيب تسع شاشات كومبيوتر ضخمة في شبكة شبه دائرية لتخلق شاشة تمثّل بانوراما التاريخ. وبفضل تفاعل الشاشات معًا، يمكن استكشاف 5000 عام من الماضي، عبر النقر على عناصر محدّدة على الشاشة.  ومن الغريب أنّ النيران تجدّد موعدها مع المكتبة في كل عصر، فقد تعرّضت المكتبة الجديدة للحريق في مارس/آذار 2003، ولكنّه كان محدوداً.

إقرأ أيضاً: مكتبة الإسكندرية تضمّ 150 قطعة أثرية مُكتشفة حديثاً

المساهمون