يوتوبيا الأغنية العربية الحديثة

يوتوبيا الأغنية العربية الحديثة

28 مايو 2015
أم كلثوم وبليغ حمدي.. زمن الفن الجميل
+ الخط -

تتكاثر أغاني الحب في أيامنا هذه وتفاجئنا بكل شيء: بكلماتها وأجوائها وأداء مغنيها. ألوان وموسيقى وكليبات مختلفة ابتعدت، بل ودّعت عمالقة الطرب الأصيل وأيامهم، أيام أم كلثوم والرحابنة وعبد الوهاب وصباح فخري. صار من يتصدر المشهد الغنائي أسماء مثل نجوى كرم، عمرو دياب، شيرين، هيفاء وهبي، نانسي عجرم وبقية من نعرف.

هل هناك ما يجمع بين أغاني ما يدعى بالزمن الجميل وبين أغاني الزمن الحالي، هل نقول الزمن الرديء؟ وكيف تحولت معان عميقة لأغان مثل أغنية "أنا في انتظارك" لأم كلثوم، والتي تقول فيها: واتقلب على جمر النار واتشرد ويا الأفكار. إلى أغنية أكثر مباشرة وسطحية ترددها نجوى كرم: عاشقة روحو الجميلة.. عاشقة عيونو الكحيلة...؟

في إحدى مقابلات عميد الأغنية المغربية عبد الوهاب الدوكالي، اشتكى من أنه لم يعد يستمع للأغنية العربية منذ ما يزيد على 25 عاما، يقول: "الموسيقى العربية لم يعد بإمكاني أن أتعلم منها شيئاً. الناس الذين كان بإمكاني أن أتعلم منهم كمحمد عبد الوهاب رحلوا. والأغنية العربية تعيش مأزقاً حقيقياً جعلها في أمسّ الحاجة إلى "ثورة حقيقية". لكن هل فعلا ثمة حاجة إلى تلك الثورة، وما هي الأغنية العربية الحديثة أصلا؟ وهل صحيح أنه بات لدينا ما يدعى بالحب الآني ومعه أغانيه السريعة، أو مصطلح "Fast love"؟

ما نسمعه اليوم، بحسب إبراهيم الخوري، "يتنافى والطبيعة الشرقية التي تعتمد على الروح المشبعة بالإحساس والشوق ووصل الحبيب. فماذا نسمع اليوم؟ نسمع ما يحرك الأقدام ولا يلامس الأرواح. نسمع أغنيات ليست من جذورنا".

وهكذا، لم تعد الأغنية العربية هذه الأيام حائرة بين الأصالة والمعاصرة فحسب، بل أصبحت أفلاطونية بعض الشيء، إذ يكتفي المحبون بالتعبير عن مشاعر الهوى والفرح المتحقق والترفيه للحب. فالحب هنا يجد صعوبة في التعبير عن معان ومفردات جديدة، من دون أي بعد اجتماعي أو نفسي مقنع.

إليسا، المغنية اللبنانية، تعبر عن سعادتها بالحبيب لتغني "الفرحة اللي أنا فيها كلها ترجع ليك. من زيننا يا حبيبي الليلة قولي في مين. أنا خايفة من كتر الشوق إننا رايحين. على دنيا حبها تجمعنا. والكون كله ده مش هيسعنا. وهنعيش أسعد وحدة أنا وأنت سنين وسنين".



هنا نرى أن العائلة أو الأصدقاء أو الطبقة الاجتماعية لم تعد تشكل سببا لفراق عاشقين، بل في حالة إليسا نرى أن الظروف كلها قد هُيِّئت لها لتتواجد مع حبيبها. بينما في حالة اسمهان "يللي هواك شاغل بالي. وفي غرامك أنا ياما قاسيت. روحي وروحك متفقين. وفؤادي عالحب أمين. فرقنا لوم اللايمين وحرمني من اللي تمنيت" نرى بأن المجتمع حال دون لقاء الحبيبين.

وقد يجادل بعضهم بأنه هذه هي إحدى متطلبات العصر والحداثة، الا أن ما يحدث هو أن هذه الأغاني تعيش حالة مثالية وتظهر مجتمعا متصالحا مع نفسه من دون عقد أو تناقضات، وهذه صفات مجتمع خيالي ووهمي.

اقرأ أيضا:آمال ماهر تخلع عباءة أم كلثوم رسمياً

يساهم الفيديو كليب كذلك في ترسيخ هذه الأفكار، فنجد المخرج غالبا ما يحتال على الموضوع، ويزج بالمغني في ناد ليلي، لتختلط الموسيقى بأنواع رقص متعددة لا هوية لها، فنرى تعرياً وخلعاً يترافق مع أغنية بكلمات محافظة، لنُكمل عملية استهزائنا بالمشاهد العربي.

وهذا ما تلحظه الباحثة اللبنانية كلاديس سعادة في دراستها عن الأغنية الحديثة، إذ ترى أن شبابنا يعيش هاربا او راغبا بالهرب من عالمه التقليدي نحو أحلام غير واقعية: سفر، ثراء، تعدد لغات، رقص. فيكون الكليب قد ساهم في الترفيه والتنفيس عن الرغبات والتناقضات، كلما بعد المكان اختفت التناقضات والصراعات ودخلنا عالم الحلم الذي هو أحد وظائف الفيلم الأساسية.

هذا اللامكان يترافق مع تداخل لغات التعبير فالإنكليزية والفرنسية والعربية والهندية تمتزج في الأغنيات بشكل يوحي بالتقارب فيما بينها، ناهيك عن الرقص الذي لا يأخذ اختصاصا. فالمهم التعبير الجسدي. أما التصنيف بحسب نوعية الرقص غير ضروري. هذا التداخل والمزيج هما وجه من أوجه العولمة أو التغرب أو تحويل المستمعين إلى عالم الحلم البعيد كل البعد، عما يعيشه غالبية الشعب العربي الذي يستهلك تلك الأغنيات وتلك المشاهد.

بيد أن الأنكى في عالم الأحلام هذا، هو غياب أي عوائق مادية، فنرى المغنيات والمغنون يتناوبون على ارتداء أجمل الفساتين وقيادة أفضل السيارت، وبهذا نشهد طبقية جديدة بتوجه الأغنية الحديثة إلى العربي الثري والقادر على شراء هذه الأشياء، بينما يكتفي الفقير بحلم الحصول عليها.

ورغم أن أم كلثوم كانت قد وعدتنا بوصفة سحرية للشفاء "المغنى حياة الروح يسمعها العليل تشفيه"، يبقى الخوف بأن تكثر عللنا قبل أن نشهد عودة حميدة لأغنية جميلة تشفي أرواحنا، وقد تدفعنا كذلك لوهبها أعيننا.

المساهمون