شاعر الربابة: فنان الشعب في صعيد مصر

25 مايو 2015
أمين عام الناتو السابق يعزف (Getty)
+ الخط -
لا يزال أهل الصعيد وحدهم ينتظرون "شاعر الربابة"، فيفترشون الساحات، متفاعلين مع الأحداث، ومشاركين الراوي المغنيّ بالتصفيق والترديد خلفه في بعض الفواصل الثابتة. وقد زحفت المدنيّة بفنونها البصرية والسمعية على ذائقة الشعب العربي عامة، فتبدلت اهتمامات الناس الذين كانوا من قبل ينتظرون بفارغ الصبر ذلك المُنشد الجوّال الذي يقصّ أخبار الأبطال، معتمداً على حافظته من ناحية، وعلى آلته الموسيقية المميّزة من ناحية أخرى.
عشرات من شعراء الربابة توارثوا الفنّ، وتخصّصوا في سرد أحداث السير الشعبية، فامتازوا بالحفظ الواسع للأحداث المدونة شعراً في معظمها، وبنبرة صوتهم التمثيلية المميزة. من أشهر هؤلاء الرواة في صعيد مصر: جابر أبو حسين، وعز الدين نصر الدين، وعبد الباسط أبو نوح، وأبو الوفا، وعطا الله، وشوقي القناوي، والنادي عثمان.
وكان الراحل عبد الرحمن الأبنودي، وهو صعيدي الأصل من أهل قنا، قد صرف سنوات عدة من عمره لتوثيق السيرة الهلالية وتسجيلها، وتم له ذلك بمعاونة المنشد (الشاعر) سيد الضوي بربابته. وتبلغ السيرة الهلالية نحو مليون بيت من الشعر، وهي أشهر السير وأكثرها رواجاً وتصرفاً في شمال أفريقيا، حيث تدور أحداثها الدرامية بين مصر وتونس. وتم تكريم سيد الضوي، الذي تجاوز الثمانين من عمره، في الدورة الأولى من "مهرجان دوم للحكي" العام الماضي، باعتباره عميد شعراء الربابة.
أما شعراء ربابةِ الوجه البحري فكان معظمهم من "الغجر". أشهرهم: سعد الشاعر، وفتحي سليمان، ومبروك الجوهري، وفوزي جاد.

بين الشعر والنثر

يرصد المستشرق إدوارد لين في كتابه "أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم" أن فريقاً من الحكائين كانوا يسمّون "المحدّثين"، حين يؤدون القصص الشعبي ورواية أحداثه شعراً، كان النثر يقوم بوظيفة الربط والنقل والتركيز عن طريق "المحدّث". كما أن مقطعات الشعر كانت تنشد وكأنها على ألسنة الأبطال أنفسهم. 

إقرأ أيضاً: التكية الصّوفية


أسلوب شعراء الربابة في تقديم الملحمة هو شعر "المربعات". فبعد أن تبدأ المقدمة الثابتة موضوعياً بمدح الرسول والزهد في الدنيا وطلب المغفرة، تبدأ المربعات التي تنظم السيرة بها. والمربع بيتان من الشعر، مؤلفان من أربعة أشطر مستقلة ومتصلة. تتشابه قافيتا الشطر الأول والثالث من جانب، والثاني والرابع من جانب آخر.
وينفي الدكتور عبد الحميد يونس أن يكون شاعر الربابة هو "الحكواتي" الذي عرفته المجتمعات العربية، فـ "الحكواتي" كان يطلق على الممثل الفرد، الذي يقوم بتقليد الأشخاص والأصوات، ويتوسل بمحاكاة الحركة والإشارة أيضاً. ولم يكن ينقل أصوات الناس فحسب، بل كان يقلد أصوات الحيوانات أيضاً. وكان الشعب لا يلتمس عنده تمثيلاً جاداً، وإنما يلتمس ما يصنع الضحك ويشيع البهجة، ولا تزال له نظائر في الفنون التمثيلية الهزلية إلى اليوم.

دراما السيرة

تندمج عدة فنون قولية وإيقاعية في السيرة الشعبية، ويطلق الناس على منشد السيرة "الشاعر"، ويتنافس الشعراء في تطوير ما يؤدونه من محفوظات متوارثة، فلا مانع لديهم من الإضافة والتعديل المستمر، على ألا يخرج التطوير المحدود عن الإطار العام للدراما الموروثة. وهو ما يستدعي تخصّص بعض الشعراء في سير بعينها، فهناك شعراء للهلالية وشعراء آخرين لسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن... وهكذا.

إقرأ أيضاً: السحر والشعوذة يسيطران على برومو "ساحرة الجنوب"


وفقاً لفاروق خورشيد، فإن السيرة الشعبية تسببت في تأخر وصول المسرح إلى العالم العربي بسبب تغلغلها الحقيقي في نفوس الجماهير. لكنها على الرغم من ذلك أرست مجموعة من السمات استقرت في المسرح العربي، مثل النهاية السعيدة بانتصار الحق على الباطل، والنبرة الخطابية والصوت المرتفع في دفاع الشخصيات عن حقوقها.
السير الشعبية تمثل امتداداً متتالياً لتاريخ الشعب العربي منذ الجاهلية وحتى نهايات العصر المملوكي، أي منذ البداية داخل الجزيرة العربية، وفي اليمن، ثم في العراق والشام، ثم في مصر والشمال الأفريقي كله. وهناك شواهد تشير إلى أن كتّاب السيرة كانوا ينظرون إلى من سبقهم من كتّاب فيكملون ما قدموه، ويحذون حذوهم موضوعياً وفنياً.
في مستهل سيرة "ذات الهمة" يبرز البطل "الصحصاح" كأنه صورة من "عنترة بن شداد"، فهو يقتل الأسد في صباه الباكر، وله عبد اسمه "نجاح" يقوم منه مقام "شيبوب" من عنترة. فكأن قصة الصحصاح امتداد لقصة عنترة!
غير أن أهم ما يمايز بين سيرة شعبية وأخرى هو اختلاف البيئات والزمان، بحيث يمثل مجموع السير الشعبية تاريخ الأمة العربية، فهي تبدأ بسيرة عنترة الجاهلي وتستمر إلى ما بعد موته في مرحلة الامتداد أو العنتريات (أبناء عنترة) أيام الخلفاء الراشدين. كما تبدأ سيرة ذات الهمة في نهاية العصر العباسي في خلافة الواثق بالله. بينما تبدأ أحداث سيرة الظاهر بيبرس في عهد الأيوبيين، وإن كان الراوي يستهلها بذكر موت المعتصم بالله، ثم يعدد سريعاً خلفاءه إلى أن يصل لزمن الأحداث. وكأن هدف مؤلف السيرة الشعبية يتمحور حول إبداع تاريخ شعبي يقف إلى جانب تاريخ الملوك والقادة والوزراء التي حفلت بها كتب التاريخ.

حكاية الربابة

الموسيقى عنصر أساسي في أداء السيرة، وهي تعتمد على الربابة الصعيدية، وقد تشترك معها بعض الآلات الأخرى كالرق والدربكة. وينتقد "سيد الضوي" شعراء السيرة في الوجه البحري، ويصفهم بأنهم أفسدوا السيرة، لأنهم أدخلوا أدوات موسيقية أخرى مثل الكمان!
ويبدو أن ربابة الشاعر تطورت عما كانت عليه قديماً، فلها أشكال متعددة، والنقوش الفرعونية تثبت عراقتها.
الدكتور عبد الحميد يونس، يصف الربابة الجديدة (الصعيدية) بأنها ثنائية الوتر، وكانوا يسمونها في القرن الـ 19 "كمنجة". ويتراوح طولها من ستين إلى مائة سنتيمتر، وصندوقها الصوتي عبارة عن نصف جوزة فارغة، ويتناسب طول القوس الذي يعزف به الشاعر مع طول الربابة، ويصنع من خشب الشوم أو الخيزران. وهي بهذا الوصف تختلف قليلاً عما حكاه إدوارد لين بأنها ذات وتر واحد. وكانوا يطلقون عليها في أيامه "ربابة أبي زيد"، لارتباطها بالسيرة الهلالية.
دلالات
المساهمون