قُرْبُص المنسيّة

قُرْبُص المنسيّة

24 مايو 2015
الطريق إلى القرية ممتعة وخطيرة في الوقت نفسه(العربي الجديد)
+ الخط -

لا تبعد قرية قُربُص عن العاصمة التونسية أكثر من 50 كيلومتراً تقريباً، ما يمكّن من الوصول إليها في أقل من ساعة واحدة، برغم الطريق المقطوعة منذ نحو 14 سنة، والتي حوّلت حياة التجار القلائل إلى معاناة حقيقية، بعدما كانت تمر عبر طريق "عين أُقطُر" وهي إحدى عيون القرية الكثيرة التي تبقى أشهرها "عين العٓتْروس" الساخنة والغنية بالأملاح المعدنية التي تصبّ مباشرة في البحر، ما يجعل السباح الذي يبتعد قليلاً عن الشاطئ ينعم بالبرودة والدفء في الوقت نفسه، علاوة على مزاياها الطبية التي لا تُحصى.
ومن بين عيون القرية الشهيرة الأخرى نجد "عين الكٓنٓاسيرة" التي يقصدها الرواد للتداوي لثراء مائها وأهمية الطين المترتب عن جريانها في علاج البشرة والأمراض الجلدية، برغم أن الوصول إليها شاق على بعض الزبائن ويتطلب جهداً كبيراً في النزول عبر منحدر جبلي حادّ.
وهناك في القرية عيون كثيرة أخرى مثل "عين الفٓكْرون"، أي السلحفاة، و"عين الصبية" و"العين الكبيرة" و"عين الشفاء" وغيرها من العيون، ولكنها لا تُستغل بالشكل الأمثل. وبعدما كانت مياه "عين أُقْطُرْ" المعبأة في قوارير من أشهر مياه الشرب المعدنية في تونس بمذاقها الحلو، تراجعت في السنوات الأخيرة لفائدة ماركات كثيرة أخرى أقل منها قيمة بالتأكيد.
ومن خصائص القرية التي اشتهرت بها منذ عرفها التونسيون، قدراتها الاستشفائية الكبيرة المشهود لها طبياً، ما جعلها قبلة التونسيين الذين يتوجهون إليها للتداوي من أمراض عديدة، مثل الروماتيزم، وبأثمان زهيدة تتكفل الدولة بدفع جزء منها لفائدة المتقاعدين وكل منخرطي صندوق الضمان الاجتماعي من موظفي الدولة بكل أصنافهم.
وتكون الإقامة في المحطة الاستشفائية الشهيرة بالقرية، وكذلك في الحمامات التقليدية المعروفة باسم "العٓرّاقة". وقد تم تأسيس هذه المحطة الاستشفائية منذ سبعينيات القرن الماضي وتقدم عديد الخدمات العلاجية بالمياه المعدنية كالتدليك والعلاج بالطين والماء المضغوط وعلاج الحزام والظهر والإرهاق وغيرها من الأمراض.
وبالعودة الى تاريخ المدينة العريق، يقول معز الذي يشرف على مطعم في أعلى الجهة الشرقية من القرية لـ"العربي الجديد" "إن تسمية الجزيرة ربما تعود إلى تحريف في نطق جزيرة قبرص، أو للتشابه بين المنطقتين"، في حين أن بعض المؤرخين يقول إن الرومان هم من أطلقوا هذه التسمية عليها، وتحديداً تسمية "كاربيس".
وتقول بعض المصادر التاريخية الأخرى إن تسميتها القديمة هي"أكوا (ماء بالإيطالية) كاربيتاناي"، وإن اكتشافها تم بعد ذلك مع أحمد باي في نهايات القرن التاسع عشر، وهو أول من أسس المحطة الاستشفائية القديمة مثلما تدل عليه البنايات الموجودة إلى اليوم، لكن المستعمرين الفرنسيين انتبهوا إلى مياهها الغنية بمادة "الكالسيوم" و"السلفير" و"السلفات"، أي الكبريت والمعادن، المفيدة في علاج أمراض الرئتين والتنفس عموماً، وكذلك الأمراض الجلدية، وقاموا باستغلالها تبعاً لذلك.
ويعود معز، صاحب المطعم، متحسراً على هذه الهبات الربانية الضائعة، ويقول إن قرية بهذه الخصائل الكثيرة، التي تقع بين جبل وبحر من أجمل البحار في تونس، مهملة ومتروكة و ليس بها نزل وفنادق تليق بها ولا تلقى الترويج المناسب من وزارة السياحة التونسية التي تتجاهلها بالمرة وكأنها ليست مدينة تونسية، ولولا بعض المواطنين الذين يصرون على مشهد الغروب الساحر في المنطقة لهجرها جميع التجار.
ويعقّب معز على موضوع الطريق المقطوعة منذ سنوات، ويشير إلى أن الشركة الإسبانية التي تعهدت بإعادة بنائها لم تنته من أشغالها إلى اليوم، برغم أن طولها لا يتجاوز ثلاثة كيلومترات فقط، مستغرباً من تطلب ذلك حوالي 14 سنة كاملة، ما جعل محبي القرية وروادها يهجرونها بالتالي. لكنه لا ينفي خطر تساقط الصخور من الجبل على الطريق الضيقة الوحيدة، الممتعة والخطيرة في الوقت نفسه.
ويعوّل معز وبعض التجار، الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة، على فصلي الربيع والصيف، وخصوصاً نهاية الأسبوع لتعويض خساراتهم في باقي الأيام، وينتظرون في الأثناء أن ينتبه التونسيون وتنتبه الدولة بالخصوص إلى هذه الجنة المنسية.

المساهمون