جزيرة أوكيناوا.. تقاليد تقاوم التغريب

جزيرة أوكيناوا.. تقاليد تقاوم التغريب

25 ابريل 2015
التمسك بالتقاليد (Getty)
+ الخط -
يصعب على الزائر المتهادي في سحر جزيرة أوكيناوا اليابانية والسكينة المنسدلة عليها أن يتصوّر كيف احتلّها الجيش الأميركي، وقتل ثلث سكانها (ربعهم في معركة واحدة) خلال الحرب العالمية الثانية، ثمّ حوّلها إلى قاعدة عسكرية عائمة، وخزّن فيها معظم أسلحته النووية، ولوّث طبيعتها بالمواد الكيميائية في عملية "القبعة الحمراء" الشهيرة، واغتصب المئات من بناتها ونسائها.

لكن أكثر ما يدهش في أوكيناوا أن سكانها هم أكثر المعمّرين في العالم، وبفضلهم تحتلّ اليابان المرتبة الأولى متقدمة على إمارة موناكو؛ المعروفة بأنها أفخم منتجع للأثرياء المسنّين. ثلث سكانها تنوف أعمارهم عن السبعين، وألفان تجاوزوا عتبة القرن، معظمهم لا يعاني من أي إعاقة ويمارسون حياتهم من غير صعوبات تذكر.

دراسات عديدة أجريت حول نمط حياة أهل هذه الجزيرة ونظامهم الغذائي؛ لمعرفة سر تعميرهم المديد وتدنّي معدّل إصاباتهم بالأمراض الشائعة. أشمل هذه الدراسات وأحدثها كانت تلك التي أجرتها منظمة الصحة العالمية مؤخراً، بعدما ثبت علميّاً أن التركيب الوراثي مسؤول بنسبة الثلث عن صحة الإنسان، فيما السلوكيّات الغذائية والأنماط المعيشية مسؤولة بنسبة الثلثين.

يذهب اليابانيون إلى الطبيب بمعدّل أربع عشرة مرة في السنة مقابل خمس مرات للبريطانيين، ما يساعد على الرصد المبكر للأمراض، ومعالجتها في مراحلها المبكرة والشفاء النهائي منها. ويساهم ذلك في خفض التكلفة العامة لنظام العناية الصحية، إذ يحدّ من الحالات التي تستدعي علاجات وجراحات معقّدة وفترات نقاهة طويلة.


كذلك فإن النظام الغذائي يساهم في تمتين صحة اليابانيين، إذ إنه يعتمد على وجبات غنيّة بالمنتوجات والمواد النباتية، عمادها الخضار والبطاطا والتوفو الفقير بالسعرات الحرارية والغني بالبروتينات. استهلاك اللحوم مقصور عادة على المناسبات، والصويا المعروفة بمزاياها لخفض الكولستيرول، ومقاومة الأمراض السرطانية حاضرة دائماً على الموائد اليابانية.

يستبدل اليابانيون الخبز بالأرز، يبتعدون عن العجائن المخمّرة والمواد المضافة، ويواظبون على شرب الشاي الأخضر الذي ثبتت فوائده العديدة لتيسير الهضم، وتقوية المفاصل وتحصين المعدة ضد الإصابات السرطانية. يتناولون الحساء والطحالب عند فطور الصباح بدل القهوة والحليب، والزبدة التي لم يعرفوها إلا بعد الحرب العالمية. يستهلكون ثلثي السعرات الحرارية التي يستهلكها الغربيون، ويحرصون على جمالية الأطباق والموائد التي يمتعّون بها النظر، ويشبعونه قبل الإقبال على الطعام.

اقرأ أيضا:معرض عن "بيت الماء" وكراسيه في طوكيو

يتفنّنون في طقوس الشاي اليومية شبه المقدّسة، يفضّلون تناول الطعام جلوسا على الأرض؛ مما يقتضي وضعيّة يستقيم فيها العمود الفقري، يواظبون على الحركة ويقضون فترات طويلة في الهواء الطلق فيستوعبون كميّات أكبر من الفيتامين دال الذي يسهّل تدوير الكالسيوم. يربّون الأزهار ويعتنون بالحدائق ويميلون إلى التواصل الاجتماعي والتآزر العاطفي، ويتحاشون الإجهاد النفسي الذي تعتبره منظمة الصحة العالمية أشدّ المخاطر الصحية.

واليابانيون مولعون بالتفاصيل في كل ما يقدمون عليه، وهم موصوفون بمهارتهم في تبنّي الصيغ الناجحة ورفعها إلى أرقى مستويات الجودة والإتقان، بدءاً بالصناعات الحرفية ووصولاً إلى التكنولوجيا المتطورة.



في الجزر يميل الناس إلى صون تقاليدهم وطقوسهم، وإلى الدفاع عن نمط حياتهم في وجه التأثيرات الخارجية التي يخشون أن تشوّه هويتهم. لكن إلى أي مدى ما زالت أوكيناوا، وغيرها من الجزر الصغيرة، تعكس الصورة الحقيقية لليابان في مطالع القرن الحادي والعشرين؟

الحرص الشديد على التقاليد لا يزال من السمات البارزة في المجتمع الياباني، لكن مظاهر التغرّب والأنماط المستوردة بدأت تستقرّ في مساحات واسعة، وتعيد تشكيل مسلكيات الأجيال الجديدة التي يجذبها الغرب وتستهويها عاداته الاستهلاكية وقيمه الاجتماعية.

وفي مقابل هذا التغرّب الذي يبلغ أعلى درجاته في المدن الكبرى، وبخاصة في طوكيو، بدأت تظهر حركات وتيّارات مضادة تدعو للعودة إلى الأصول، وتحصين المجتمع الياباني ضد ما تعتبره تشويهاً للهوية وتذويباً لها في ثقافات أقلّ شأنا، ويرى فيه بعضها استعماراً وهيمنة من نوع آخر.

لن يكون من السهل على اليابانيين أن يقاوموا طويلاً رياح العولمة الثقافية والاجتماعية، ولا سيّما أنهم عانقوا العولمة الاقتصادية وتقدمّوا بين روّادها.

اقرأ أيضا:مقاهي اليابان القديمة لا تأبه لنجاح سلسلة "ستارباكس"

المساهمون