كنيسة "تمبل": نقطة إنطلاق "فرسان الهيكل" البريطانيين

كنيسة "تمبل": نقطة إنطلاق "فرسان الهيكل" البريطانيين

19 يناير 2015
كنيسة تمبل(العربي الجديد)
+ الخط -
من وسط العاصمة البريطانية في منطقة هادئة بعيدة عن الضجيج، كأنّها خارج حدود لندن، تقع كنيسة تمبل التي تدفن في قاعها وفي جنباتها، أصواتاً وأرواحاً وجثثاً وتاريخاً يعود بنا ثمانية قرون إلى الوراء. من هناك انطلق المحاربون القدامى إلى الشرق في ما سموه الحرب المقدّسة أو الحروب الصليبية في أواسط القرن الثاني عشر.

بنى تلك الكنيسة فرسان الهيكل، أو فرسان المعبد الذين كانوا يلقبون بـ "جنود المسيح الفقراء"، واعتبروا من أقوى التنظيمات العسكرية المسيحية الغربية وأكثرها ثراء ونفوذاً آنذاك. صادقت الكنيسة الكاثوليكية رسمياً على التنظيم في عام 1129. وتميّز أعضاؤه باللباس الأبيض والصليب الأحمر اللون، واعتبروا من أمهر وأخطر الوحدات العسكرية التي شاركت في الحملات الصليبية.

قضت مهمة فرسان الهيكل، بداية الأمر، بتأمين حماية الحجّاج خلال رحلتهم من وإلى القدس في القرن الثاني عشر، واحتاجوا إلى المال والرجال لتحقيق هدفهم. وكان مقرّهم في معابد تمبل في بريطانيا العظمى، التي كانت تُبنى بتصميم دائري للتذكير بكنيسة القيامة في القدس، حيث قبر المسيح.

في البداية لقي هؤلاء الفرسان الاحترام والتقدير، وكان برنارد من منطقة كليرفو الفرنسية، رئيس دير كليرفو (1091-1153)، الراعي المباشر لهم وأحد أكبر ملهمي الحملة الصليبية الثانية همّة وعزيمة، بعد أن عهد إليه البابا أوجينيوس الثالث بالدعوة إلى "الحرب المقدسة"، ورفعته الكنيسة في ما بعد إلى مرتبة القديسين.



تقع الكنيسة في منطقة تمبل، وتحيط بها مبان للمحامين والقضاة من مكاتب ومكتبات، ومطعم خاص بهم لا يدخله العامّة. تتوسّط تلك المباني باحة تُضاء بمصابيح تقليدية في المساء وتنزوي على أطرافها مقاعد خشبية، ما يضفي على المكان سحراً تاريخياً ويبعث في المحيط خيالات لأولئك الفرسان الذين كانوا يلجأون إلى تلك البقعة للراحة واستجماع القوّة الروحية للانطلاق في حملاتهم الحربية إلى الشرق.

تتألّف الكنيسة من جزأين: الجزء المستدير ومذبح الكنيسة. في 10 فبراير/شباط 1185 كرّس هرقل، بطريرك القدس، الكنيسة المستديرة مكاناً للتذكير بالصليبيين في العالم. يرجّح البعض حضور الملك هنري الثاني مراسم تكريس الكنيسة، ويُقال إن الملك هنري الثالث احترم فرسان الهيكل وقدّرهم إلى درجة كتب في وصيته أن يُدفن في كنيستهم، لكن بعد وفاته تبيّن أنّه عدّل وصيته ودُفن في منطقة أخرى.

ما أن تدخل الكنيسة حتى تلفتك التماثيل الحجرية المسطّحة على أرضها لفرسان الهيكل الذين كانوا ذات يوم يضجّون في أرجائها صخباً وحماسة وإيماناً بقضية وصفوها بالمقدّسة حتى قاتلوا في حروب لا تمت إلى الدين المسيحي لا من قريب ولا من بعيد. وكلّما اقتربت من تلك التماثيل ازداد ذلك الإحساس الغريب والرغبة باكتشاف كنه وأسرار أولئك الرجال، حاملي السيف والدرع الذين تمدّدوا من دون حركة، في وقت لم يهدأ التاريخ عن التذكير بهم سلباً أو إيجاباً.

آمن فرسان الهيكل أنّ حربهم مباركة، بعد أن ثار غضب البابا أوربان الثاني في عام 1095 عقب وصول أنباء إليه بالاستيلاء على الأماكن المسيحية المقدّسة والمعاملة السيئة التي يتلقّاها المسيحيون، فأمر ببدء الحرب لاستعادة حقوقهم في الشرق، وقال إنّ الله سيدعمهم ويقف إلى جانبهم.

يُقال إنّ أوّل حرب مقدّسة في التاريخ كانت في أوكتوبر/تشرين الأول 312، حين ظهر الوحي على قسطنطين الإمبراطور الروماني وشاهد صليباً في السماء مع نقش حُفر عليه: "بهذه الإشارة ستربح". صدّق قسطنطين الرؤيا وحفر الصليب على سلاح جنوده وربح المعركة ربّما محض صدفة.



كان لفرسان الهيكل دور اجتماعي فاعل، فأدار أعضاء التنظيم المدنيون، بنية تحتية اقتصادية واسعة النطاق في كافة أنحاء العالم المسيحي، ويُعزى إليهم الفضل في ابتكار بعض الطرق المالية، التي كانت بمثابة الصور الأولية لنظام البنوك الحديث.

ارتبط اسم فرسان الهيكل بقوة بالحملات الصليبية، بيد أنّ الهزيمة التي لحقت بتلك الحملات في القدس، أضعفت التنظيم وخسر جلّ الدعم الذي كان يلقاه، كما انتشرت الشبهات حول الاجتماعات والاحتفالات السرية التي كان يقوم بها أعضاؤه، ما أثار الريبة حيالهم.
انتهز فيليب الرابع، ملك فرنسا الذي أثقلته الديون المادية للتنظيم، الفرصة. وفي عام 1307، اُعتقل الكثير من أعضاء التنظيم في فرنسا، وأُكرهوا تحت التعذيب على تقديم اعترافات مختلقة أو كاذبة، لينتهي مصيرهم بالإعدام حرقاً. وقام البابا كليمنت الخامس، بضغط من الملك فيليب، بحل التنظيم في عام 1312.

كان للاختفاء المباغت لشريحة واسعة من المجتمع الأوروبي، الأثر الأكبر في نفوس العامّة الذين افتخروا بإنجازاتها، ما أثار بلبلة حتى انتشرت الشائعات والأساطير حول التنظيم، منها التي تعظّم وتُجلّ به وأخرى تحقّر وتدين المنتسبين إليه، وكان لتلك الأقاويل الفضل في بقاء اسم فرسان الهيكل حياً حتى الوقت الحاضر.

ولا تزال كنيسة تمبل مقصداً للسياح الذين يرتادونها من كل ناح وصوب، لإلقاء نظرة على المكان الذي منه انطلق محاربو بريطانيا القدماء، فرسان الهيكل إلى بلاد الشرق، وشكّلت تلك الحرب نقطة تحوّل في التاريخ لا يمكن محوها من الذاكرة.



كما تجذب الكنيسة السياح كونها تحوي على جدرانها لوائح أسماء مقاتلين الحرب العالمية الأولى والثانية، الذين مرّوا بها أو انتموا إليها، خصوصاً أبناء منطقة تمبل الذين شاركوا في تلك الحروب.

دلالات

المساهمون