ضائعة في مطار فرانكفورت

ضائعة في مطار فرانكفورت

23 نوفمبر 2014
ممنوع إزعاج موظفي الاستعلامات في المطار (توماس لونز/Getty)
+ الخط -
رمتها وسيلة النقل الداخلي أمام الباب رقم 47 في مطار فرانكفورت، وأشار إليها السائق أن تنتظر هناك وغادر مسرعاً. وقفت في مكانها مرتبكة؛ لأنه لم يكن هناك مسافرون آخرون. كانت تتلفّت في جميع الاتجاهات في محاولة لأن تفهم الحالة التي وجدت نفسها فيها. وحين اختلطت عليها الأشياء اقتربت من موظفي الخطوط التركية وخاطبتهم بالفرنسية، فردوا عليها بالألمانية والتركية، فلم تتفاهم معهم، وزاد الموقف غموضاً على غموض.

أنا العابر في المطار ترانزيت ولدي ساعة من الانتظار، حين رأيتها على ذلك القدر من الارتباك والحيرة اقتربت منها، وحدثتها بالفرنسية، فكنت كمن أرسله الله فجراً لكي ينقذها من الورطة، تعلقت بي كأنها غريقة وجدت حبل النجاة، ورغم أن مشكلتها بسيطة فإنها بدت لها معقدة وكابوسية، حتى إن حديثها معي كان أشبه بالهذيان الذي تغلب عليه الجمل المتقطعة.
هي سيدة في أواخر العقد السابع من مدينة زحلة اللبنانية، جارة الوادي في قصيدة الأخطل الصغير التي شدا بها محمد عبد الوهاب وفيروز، وكانت في طريق ترانزيت في مطار فرانكفورت بين مونتريال في كندا وبيروت. ورغم سنها، فإن تعب الرحلة غير بادٍ عليها، وما كان يهمها هو أن تجد التسهيلات البسيطة كي تواصل رحلتها إلى بيروت. وبما أن الوقت كان فجراً، فقد كان عليها أن تنتظر قرابة أربع ساعات حتى تستقل الطائرة. ولذا حاولت أن أهدئ من روعها وأشرح لها الأمر وأنصحها بالراحة حتى يحين الموعد، لكنها قالت لن أنام قبل أن أصل بيروت، وكيف لها أن تنام، ولنفترض أنها نامت ونسوها في المطار؟

ولماذا تسافرين وحيدة يا سيدتي؟ قالت إنها تمضي نصف العام في كندا لدى ابنها وعائلته، وترجع إلى لبنان لتمضي بقية العام مع بقية أفراد العائلة، وهي راجعة لكي تحتفل بأعياد الميلاد مع أحفادها في زحلة، التي لا تبدلها بمكان آخر على وجه الأرض. وظلت تتحدث عن شوقها لزحلة حتى ظننت أنها سترفع صوتها لتغني: يا جارة الوادي، ولكن العيون كن بواكي ولسن حواكي كما تقول قصيدة الأخطل.

أخذتها إلى أقرب مكتب معلومات في المطار؛ كي يساعدوها في تناول أدويتها وأخذ قسط من الراحة، فلم ألق استجابة تذكر، بل صدى فظاً، وهز أكتاف بعدم اكتراث ونظرات توجس، دفعتني لأن أعاين تلك العجوز من مسافة. وراودني شك في أن تكون "داعشية" متنكرة وتخفي تحت ملابسها حزاماً ناسفاً. لا شيء في منظرها يوحي بأنها مختلفة، الأمر الذي دفعني إلى الاحتجاج على معاملتها بطريقة غير لائقة، وهي السيدة المسنة والمريضة التي تستحق كل رعاية واهتمام. ومن شدة الحماس وجدتني أدخل في جدال ساخن مع موظفي الاستعلامات، الذين لم أجد تفسيراً لسلوكهم سوى العنصرية. ولأن احتجاجي أثار حفيظتهم وطلبي تقديم شكوى، وجدت نفسي محاطاً بسبعة رجال شرطة، جرّوني والعجوز المسكينة، وهم يدفعوننا أمامهم، وكانت تهمتنا أننا أزعجنا موظفي الاستعلامات، ولم يفكوا أسرنا إلا بعد أن ذرفت السيدة الزحلاوية دمعتين حارّتين. وكان التقريع من نصيبي؛ كوني تدخلت في شأن لا يعنيني، وهو مساعدة سيدة مسنة. واعتبر رجال الشرطة تعاطفي معها نوعاً من العصبوية القومية، وسألني أحدهم: هل كنت ستقف إلى جانبها لو كانت من كولومبيا؟ نعم سأقف إلى جانبها أيها الشرطي البليد، ولن أتركها وحيدة هنا.

نهاية الحكاية أنهم نهروني بفظاظة، وأبعدوني عنها. وغادرت المكان، وأنا ممنوع حتى من الاحتجاج، إلى حد أنني شعرت بأننا وقعنا في كمين للنازيين الجدد. ولم يكن أمامي خيار آخر سوى أن أذهب مخفوراً معهم أو أغادر مذلولاً مهانأ. واخترت أن أنجو بجلدي، فرحت أبحث عن الباب الذي تغادر منه طائرتي، فاكتشفت أنه تغير من دون إعلان مسبق، وحين وجدته في اللحظة الأخيرة ووصلت إلى هناك، حاولت أن أستفهم عن سبب عدم إشعار المسافرين بتغيير الباب، فلم أجد إلا هزة رأس باردة. صعدت إلى الطائرة وأنا أقسم أغلظ الأيمان بأن الرحلة القادمة إذا استدعت ترانزيت فلن يكون مطار فرانكفورت، وليكن مطار مقديشو أو جيبوتي أو صنعاء، فالحوار مع الحوثيين أقل وقعاً من فظاظة الألمان.

اعتاد المرء بعد حياة طويلة في أوروبا على مسلّمات كثيرة، منها أن لكل خدمة ثمنها، ولكن للأسف الشديد صارت المعادلة معكوسة منذ بداية القرن، تراجعت الخدمات وارتفعت الأسعار، وانحطت معها أخلاقيات التعامل مع البشر. ويكفي أن يكون الشخص من سِحنة غير أوروبية حتى يجري النظر له بطريقة تمييزية، وكثيراً ما يصبح مثاراً للشبهات، وخصوصاً في هذه الأيام السوداء. فبعد أن أعلن أبوبكر البغدادي الخلافة، وصار الذبح بالسكاكين لعبة المجاهدين وماركتهم المسجلة، سقطت سمعة العربي والمسلم إلى الحضيض، حتى صار استعمال العربي للسكين في مطعم مبعث خوف بقية الزبائن.

المساهمون