وحدة المسيحيين... ذكريات تخنق

وحدة المسيحيين... ذكريات تخنق

19 يناير 2016
سمير جعجع وميشال عون يوم أمس (ألدو أيوب)
+ الخط -
عام 1990، على درج المبنى الذي نقطنه، نلتصق ببعضنا: أمي وأبي وأنا وإخوتي، وجيراننا في المبنى نفسه وعددهم 4 عائلات. أصرخ باكية عند سقوط قذيفة على ثكنة الجيش الملتصقة تقريباً ببيتنا. تخبئ أمي رأسي تحت سترتها. تضغط بقوة تكاد تخنقني.. أحاول دفعها بعيداً لكنها تتمسّك بي، برأسي. ثوانٍ قليلة ترتفع ولولة أمي وجاراتنا. يرتفع بكاء أولاد الجيران، وشتائم أبي. مات أحدهم... أعرف هذه الشهقة جيداً. في الخامسة من عمري كنت أعرف صوت الموت. ثوانٍ انتهى كل شيء، هدأ الصوت... هذه المرة أيضاً لم نمت. تدخّل الجيش السوري، انتهت المعركة، انتهت الحرب كلها، من دون أن نموت. لكنّ غيرنا مات.. كانوا كثراً.. لكنّ غيرنا فقد وخطف، وكانوا أيضاً كثراً. كل ما حفظته من تلك المعركة، كان شعوري بالاختناق لحظة ضغطت أمي على وجهي لتخبئه ببطنها.

ليس عبثياً استحضار تفاصيل حرب الإلغاء كخلفية موسيقية لمشهد نخب الشمبانيا الذي رفع يوم أمس بين جعجع وعون في معراب. ليس عبثياً ولا اعتباطياً، تذكّر كل ثانية من تلك الثواني المرعبة التي دفعنا نحن، ثمنها في طفولة بائسة، ومراهقة مضطربة.
في الرابعة من عمري، حملت العلم اللبناني ولافتات تافهة، رافعة علامة النصر لميشال عون في قصر بعبدا. في السابعة من عمري، كنا في بيتنا، نقبّل صورة ميشال عون. الرجل صاحب النظرة المخيفة والبذلة المرقطة كان قائدنا. كنا نخبئ صورته في علبة مجوهرات والدتي خوفاً من نوبة تفتيش مفاجئة للجيش السوري. مرّت الأيام، بهذه الرتابة العسكرية السرية.. في المراهقة لم أكن أحلف إلا بدم "شهداء الجيش"، و"غربة الجنرال".. ولم أكن أشتم أحداً إلا بوصفه بالـ"قواتي". مراهقة مضطربة تليق بنا، نحن أولاد المنطقة الشرقية الذين شربنا الإحباط المسيحي شرباً، وارتديناه عند كل عبور إلى المنطقة الأخرى منذ التسعينيات حتى الألفية الجديدة.

مرّت الأيام، ومرّت المراهقة، عند نهايتها، وبداية سنوات "النضوج السياسي" عاد ميشال عون من منفاه، وخرج سمير جعجع من المعتقل.. من حسن حظّي وحظ الكثيرين من جيلي أن ذلك حصل ونحن في بداية العشرينات. منظر عون نازلاً من طائرته بدا باهتاً، منظر سمير جعجع النحيل وغير الواثق بدا خفيفاً لا يليق بمن اعتبرناه خصماً وعدواً. لا ننتمي إليهما. لكنّهم هم، آلاف الأصدقاء والأقارب بقوا هناك، عالقين في حرب الإلغاء التي لم تنته. عالقين في حفرة الإحباط المسيحي، الذي عرف الطرفان كيف يغذيانه، بالتحريض والتجييش، والتخويف من "الآخر" الذي هو تارة سلاح "حزب الله الشيعي"، وتارة أخرى "التطرف السني".
يوم أمس وأنا أتابع المؤتمر الصحافي بين جعجع وعون شعرت بغثيان، وألم في الأمعاء. مشكلتي مع الرجلين ليست سياسية، فأنا في مكان سياسي آخر منذ سنوات، مشكلتي معهما شخصية، شخصية جداً. ميشال عون وسمير جعجع دمّرا سنوات طفولتي ومراهقتي، دمّرا حياة جيل بأكلمه، دمّرا كل فرص إخراج المسيحيين من قوقعتهم... يوم أمس، شعرت مجدداً برأسي ينغرس في بطن أمي، لم أكن خائفة، لكن الشعور بالاختناق عاد. كأننا في عام 1990، كأننا على الدرج نفسه.. منذ الخامسة من عمري أعرف صوت الموت جيداً. ميشال عون وسمير جعجع علّماني كيف يكون صوت الموت. هذه تحديداً مشكلتي معهما.. كل ما عدا ذلك، مجرد تهريج سياسي يليق بالسيرك الذي نعيش فيه.

اقرأ أيضاً: فلاديمير بوتين في بيتنا




المساهمون