المناطق الداخلية في تونس.. مرضى يموتون لغياب الأطباء

المناطق الداخلية في تونس.. مرضى يموتون لغياب الأطباء

28 يناير 2016
يعاني التونسيون غياب طب الاختصاص ما يهدّد حياتهم (الأناضول)
+ الخط -

يشعر الدكتور فوزي المهدي، مستشار وزير الصحة التونسي، بالقلق الشديد جراء معاناة العديد من المستشفيات الجهوية من غياب أطباء الاختصاص، وعلى الرغم من اتخاذ عدد من الإجراءات لعلاج المشكلة المزمنة، من بينها فتح الانتداب لمعالجة النقص الفادح في الأطباء المتخصصين، خاصة في المناطق النائية، فإن أغلب الحلول لم تفض إلى أي نتائج ملموسة، ما تسبب في وقوع وفيات بين المرضى جراء عدم توفر الأطباء المتخصصين، الذين يفضّلون العمل في القطاع الخاص، لما يدره ذلك من دخل مرتفع، عوض البقاء في مناطق تفتقر إلى أبسط الضروريات.

ويعد تخصص طب النساء والتوليد من أبرز التخصصات التي تغيب عن عدد من المناطق التونسية الداخلية، وهو ما تسبب في وفاة أم لـ3 أطفال تبلغ من العمر 34 عاما، من محافظة تطاوين (جنوب تونس)، كانت على وشك الولادة، ولكن لم يتم قبولها بقسم التوليد في المستشفى الجهوي بتطاوين، لعدم وجود طبيب نساء وتوليد بالمستشفى، ما أدى إلى وفاتها ووفاة الجنين.

ووفقا للمصادر الطبية في المستشفى، فإن المتوفاة كانت في حالة حرجة، واستوجبت حالتها تدخلا عاجلا، لكن غياب طب الاختصاص بالمستشفى حال دون إنقاذها، وهو ما تكرر في ولاية (محافظة) قبلي، جنوبي تونس، إذ توفيت امرأة بالمستشفى الجهوي، إثر عملية ولادة قيصرية واتهمت عائلة الفقيدة الطاقم الطبي بالمسؤولية عن وفاتها.

اقرأ أيضا: المغرب.. 6 رجال يصنعون صورة "محمد السادس"

خطة مواجهة نقص أطباء الاختصاص

بسبب تذمر المواطنين التونسيين من عدم وصول التغطية الصحية إلى مناطقهم في الجنوب، مثل تطاوين وقبلي والقصرين والكاف، شكلت وزارة الصحة لجنة مكونة من نقابيين وأطباء عموميين، وخواص، لدعم طب الاختصاص في الجهات ذات الأولوية.

بحسب مصادر طبية، فإن خطة مواجهة نقص أطباء الاختصاص تقوم على إقرار حوافز مالية مغرية تتمثل في منح بدل يومي (570 ديناراً) قرابة 300 دولار يوميا للأطباء العاملين بالمناطق الداخلية، لمدة 24 ساعة وبهدف توفير أطباء الاختصاص كامل أيام الأسبوع، طوال ساعات اليوم (24 ساعة)، في المستشفيات التي تعاني نقصا في الأطباء.

وتوضح المصادر أن الخطة تقتصر على 6 اختصاصات طبية ذات أولوية، وهي طب النساء والتوليد، والإنعاش، والتصوير الطبي، والتخدير، والجراحة العامة، وجراحة العظام، وطب الأطفال. وتم تحديد محافظات تعتبر ذات أولوية في مرحلة أولى، وهي الكاف، وتطاوين، وقبلي، والقصرين.

56% من أطباء الاختصاص يعملون بالقطاع الخاص

يقر مستشار وزير الصحة، الدكتور فوزي المهدي، بغياب أطباء الاختصاص في المستشفيات الجهوية، الأمر الذي أدى إلى حصول وفيات بسبب عدم توفر الأطباء. وقال الدكتور المهدي لـ"العربي الجديد"، إنّ وزارة الصحة وضعت حلولا عاجلة وفورية، لتغطية النقص الحاصل، إلى جانب إقرار إجراءات أخرى طويلة المدى ستطبّق على مراحل.

ويوضح أنه وفق دراسة حديثة، فإن نسبة أطباء الاختصاص العاملين في القطاع الخاص تقدّر بـ56%، قائلا "44% فقط من أطباء الاختصاص يعملون في القطاع العمومي، من ضمنهم حوالي الثلثين في المستشفيات الجامعية الكبرى، كصفاقس وتونس العاصمة والمنستير". ولفت المهدي إلى أنه من غير المقبول أن تلجأ تونس إلى جلب أطباء أجانب للعمل في المناطق الداخلية، كما طرح البعض.

وفسر ارتفاع مكافأة عمل أطباء الاختصاص إلى 300 دولار، بالحاجة إلى هؤلاء الأطباء في تلك المناطق، إذ إنهم يأتون من محافظات بعيدة تبعد 500 كيلومتر في بعض الأحيان، بالإضافة إلى ضرورة تحفيزهم، وأشار إلى ضرورة توقيع عقد بين الطبيب ووزارة الصحة يقضي بضرورة حضوره 24 ساعة.

اقرأ أيضا: السوريون في تونس.. انتهاكات تدفعهم إلى قوارب الموت الأوروبية

بناء مستشفيان في 5 أعوام

بحسب الإحصائيات التونسية، يبلغ عدد الأطباء بالنسبة لكل ألف شخص 1.19 طبيب، وهي أرقام قريبة جدا من بلدان مجاورة، كالمغرب، كما يشير الدكتور فوزي المهدي، قائلا "التغطية الصحية ككل لدينا قريبة من المغرب (في المغرب طبيب لكل 1637 شخصاً)، وأفضل من الجزائر، الإشكال الأساسي يكمن في التوزيع".

تكشف الإحصائيات ذاتها أن عدد المستشفيات في تونس لم يتطور كثيرا، إذ كان العدد 172 مستشفى في 2007 وأصبح 174 في 2011، أما مراكز الصحة الأساسية (المستوصفات) والتي توجد أكثر في المناطق الداخلية، فأصبحت وفقا لآخر الإحصائيات الصادرة عن وزارة الصحة، 2091 مستوصفا في 2011 بدلا من 2088 مستوصفا في 2010، أغلبها يعاني من نقص أطباء الاختصاص. وتقدّر منظمة الصحة العالمية حاجة تونس من الأطباء بـ240 طبيبا لكل 100 ألف شخص في حدود العام 2025.

وتتركز نحو 75% من المستشفيات، وخصوصاً الجامعية منها، في مناطق الشمال، لتتوزع البقية على مناطق الوسط والجنوب. كذلك، لا يتجاوز عدد الأسرّة الـ183 سريراً لكل مائة ألف مواطن، علماً أن هذا العدد يتضاءل في مناطق الوسط والجنوب. وتعاني محافظتا القصرين وسيدي بوزيد من نقص في عدد الأسرّة. وفي ما يتعلق بتوزّع الأطباء، تُعاني محافظات الوسط الغربي (على غرار القصرين وسيدي بوزيد)، ومحافظات الجنوب الغربي (قفصة وقبلي وتطاوين وغيرها)، من نقص في عدد الأطباء. في محافظة تطاوين، يوجد فقط 68 طبيباً متخصصاً لكل عشرة آلاف مواطن، تليها القصرين بـ94 طبيباً، وهو ما يدفع الأهالي إلى قطع 30 أو 50 كيلومتراً للوصول إلى أقرب مستشفى، خاصة إذا تعلق الأمر بالجراحة العامة، وجراحة العظام، والتخدير، والإنعاش، وأمراض القلب، والشرايين، وأمراض النساء والتوليد.

هجوم على رفض العمل بالمناطق الداخلية

الوضع السابق دفع "كاتب عام" نقابة الصحة بمستشفى تطاوين، سمية ذكار، للقول إن الأطباء لم يدرسوا بمالهم الخاص، ولكن الدولة أنفقت عليهم، وبالتالي فإن من واجبهم إسداء خدماتهم في المناطق الداخلية. ودعت في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، إلى ضرورة إجبارية العمل في المناطق الداخيلة، قائلة "إجبارية الخدمة في المناطق الداخلية مهمة حتى يتواجد الأطباء بالمناطق الداخلية، من بنزرت (شمال تونس) إلى برج الخضراء (أقصى الجنوب)، حتى لو لعام".

وترى كاتب عام نقابة الصحة بمستشفى تطاوين، أن تخصيص 26 مليون دينار من ميزانية 2016 لمنحها إلى أطباء الاختصاص لدفعهم إلى العمل في المناطق الداخلية، يعد إهدارا للمال العام، قائلة: "الإجراء غير عادل، لأن المستشفى لا يتكون من طبيب فقط، بل نجد فيه الممرض، والقابلة، وعديد الأعوان، ممّن يتقاضون 7 دنانير (3.5 دولارات) عن الليلة، في حين أن منحة الطبيب التي أقرتها أخيرا وزارة الصحة (300 دولار) عن كل يوم عمل، تضاهي في الحقيقة راتب ممرض خلال شهر"، موضحة أنه بعد صدور القرار حصل تململ في المستشفيات، وقد يقود الأمر إلى احتجاجات في المستقبل.

وتؤكد ذكار أن الطبيب يعمل في ظروف مريحة حتى ولو كان في المناطق الداخلية، وترفض ما يثار حول افتقاد تلك المناطق إلى الأمن، قائلة: "الأماكن التي يعملون بها محمية وآمنة. وضعهم أفضل من الجندي العامل في أقصى الجنوب أو على الحدود".

تضيف أن ما يثيره بعض الأطباء من افتقار المستشفيات الجهوية إلى التجهيزات، وإلى فضاءات العمل، "تعلّاتٌ واهية"، لأن الكثير من المعدات أصبحت متوفرة، وتوجد تجهيزات تقدّر قيمتها بمئات الملايين، وأخرى متطورة جدا، لكن أطباء الاختصاص يتجهون إلى القطاع الخاص لأنه يدر عليهم أرباحا أكثر.

اقرأ أيضا: أزمة اليسار العربي

إشكالية التوزيع العادل

يرى متخصصون أن 95% من التونسيين يحصلون على خدمة صحية لا تبعد عنهم أكثر من 5 كلم، ولكن الإشكال الأساسي يكمن في التوزيع الجغرافي لأطباء الاختصاص، بينما يعتبر التوزيع عادلا بالنسبة للطب العام.

ترى كاتب عام نقابة أطباء الاختصاص التابعة لاتحاد الشغل، الدكتورة نجيبة الميزوني، أن المشكلة الواقعة تأتي نتيجة عدة تراكمات، موضحة أن كل وزير يتسلّم وزارة الصحة يأتي بقرارات جديدة، ومعظمها لم تكن ناجعة، لحل مشكلة أطباء الاختصاص.

وتضيف لـ"العربي الجديد": "القطاع الصحي العمومي في تونس من القطاعات الهشة والضعيفة، وتخصيص حوافز مالية لأطباء الاختصاص، هدفه تشجيع الأطباء للعمل في الجهات عوضا عن القطاع الخاص"، وأوضحت أنه من بين شروط الحصول على منحة 300 دولار في اليوم "القطع مع النشاط الخاص". وشددت على أن الأطباء يتحلون بوطنية عالية، وبالتالي يجب توفير الظروف الملائمة ليعملوا في أريحية، بعيدا عن المزايدات والشيطنة والتوظيف السياسي.

يؤكد عدد من الأطباء، استطلعت معدّة التحقيق آراءهم، أن المحيط الاجتماعي يلعب دورا هاما في قبول الطبيب للعمل في جهة دون غيرها. ووفق تصريح أحدهم لـ"العربي الجديد"، فإن الطبيب يقضي عدة أعوام في الدراسة وقد يحتاج لاحقا إلى محيط ملائم لترفيه أسرته، وللالتقاء بخبرات أخرى أغلبها تكون موجودة في المستشفيات الكبرى، ومعظم المناطق الداخلية تفتقر إلى ضروريات العيش، وهو ما يؤدي إلى العزوف عن الاستقرار في تلك المناطق أو حتى فتح عيادات خاصة بهم.

تكشف أحدث إحصائيات وزارة الصحة التونسية أن 60% من أطباء الاختصاص في تونس إناث، وعادة ما يبحثن عن العمل في المدن الكبرى، كما تفضّل المتزوجات منهن العمل بعيدا عن المناطق الداخلية بحكم ارتباطاتها، كما تقول إحداهن لـ"العربي الجديد". وتؤكد الطبيبة أن معالجة النقص الحاصل قد تحتاج إلى عدة أعوام وإلى قرارات أكثر جرأة، وهو ما توافقها عليه عائلات المرضى في المناطق الداخلية الذين يرون أنه من غير المقبول تكرار حالات الوفاة أثناء الولادة أو غيرها من المشاكل الصحية بسبب غياب أطباء الاختصاص في المناطق الداخلية.

دلالات