أفلام إيرانية تُفكّك الثورة وسينماها

أفلام إيرانية تُفكّك الثورة وسينماها

26 يونيو 2019
عباس كيارستمي: بدايات تأسيس سينمائيّ جديد (جواكين سارمنتو/فرانس برس)
+ الخط -
"كان يا ما كان 1979": 40 عامًا مضت على الثورة الإيرانية، التي منحت السينما الإيرانية "نفسًا جديدًا قويًا ومتناقضًا"، تاركةً بصمات عليها لا تُنكر، كما يكتب منظّمو "سينما/ سينمات إيران" في باريس. 

في دورته الـ7 (12 - 18 يونيو/ حزيران 2019)، تابع المهرجان ـ المُقام بالتعاون مع سينما "نوفل أوديون" المستقلة ـ دروة تعريفية بالسينما الإيرانية في باريس. إنّه ليس مهرجانًا كبيرًا بعدد أفلامه، ولا دعائيًا مع سجادة حمراء وتكريمات. بل مهرجان صغير بضيوف قلائل، مع برمجة قيّمة، تفسح أفلامها القليلة (21 فيلمًا) بالاطّلاع على حاضر السينما الإيرانية وماضيها، باختيار موضوع يُسلَّط الضوء عليه كلّ عام، جنبًا إلى جنب مع أفضل الجديد.

هذا العام، اختار المنظّمون، بإدارة المخرج نادر تكميل همايون، 9 أفلام تُعتبر خلاصة "40 الثورة الإسلامية في إيران"، ومدى تأثيرها على السينما الإيرانية. لكن سؤالاً يُطرح: كيف لثورةٍ، بدأت بحرق صالات السينما، أنْ تمنح دفعة للسينما الإيرانية؟ كيف لبلدٍ مُضطرب بحدث الثورة ومُدمَّر بالحرب، أن يصنع تجديدًا سينمائيًا؟

يسعى المهرجان إلى الإجابة عن هذا كلّه، من خلال الأفلام المعروضة، كالوثائقي "من أجل الحرية" (1980) لحسين ترابي، الذي تكمن أهميّته في النظرة الواسعة والشاملة على الثورة منذ بداياتها، مع إحراق سينما "ريكس" في عبادان. الفيلم لا يُقدّم تفسيرات أو توضيحات، بل يترك الكاميرا تسرح بين حشود تُطالب برحيل الشاه، رافعة شعارات كـ"نأملُ قتلَ من قتل أخي" و"الموت للشاه" و"أمريكاني عُدْ لبلدك". بين الحشود ضحايا برصاص الجيش، ونسوة يبكين ابنًا أو زوجًا أو أخًا. بين المقابر والمستشفيات والشوارع، وقصر الشاه في نيافاران وهو يتلقّى التكريس مرّة وتقبيل اليد مرّات، ثمّ وهو يرحل، يعرض الفيلم صورًا نادرة ومباشرة من موقع الأحداث، ويرصد المراحل التاريخية زمنيًا، من بداية الثورة حتى نجاحها ووصول الخميني. في ساعتين، يرصد المُشاهِد دقائق الصورة الصافية (الفيلم مُرمَّم)، والوجوه والملابس (طغت مرتديات التشادور على المتظاهرات)، وتتابع باهتمام شديد خفايا احتلال السفارة الأميركية في طهران، من تحذير مدير الشرطة حينها للمسلّحين بالعدول عن الأمر، وهو يتكلّم بمكبّر الصوت، لكن ما من مجيب.
هناك أيضًا أحاديث الشارع، بين مؤيدين كثيرين لـ"الجمهورية الإسلامية" (عبر نقاش أو استفتاء طرحه الخميني)، وبين معارضين قلائل، وهذا يؤخذ على الفيلم، من دون إلغاء أهميته كفيلم يؤرّخ، باعتماده الصورة المباشرة والكلمة العفوية وشعارات اللحظة، حدثًا اعتُبر "زلزالاً" سياسيًا وثقافيًا لإيران والمنطقة. 

وثائقيّ آخر لكيانوش عياري، أحد أهم مخرجي السينما الإيرانية، يتجوّل بالكاميرا في طهران، ناقلاً شعور البهجة والخفّة المتأتيين بعد النصر، وراصدًا الحشود الثورية والحدث التاريخي، والوجه الآخر للمدينة، والحياة اليومية فيها، وشيئًا من جانبها المظلم. في "طهران اليوم" (1980)، لوحة من شوارع طهران صيف الـ1979، في فترة تمتدّ بين العنف الثوري ومراحل تشكيل الجمهورية الإسلامية، الواعدة حينها بالنسبة إلى كثيرين. مع البطالة والبؤس، تسود روح الأمل والتفاؤل. للفنانين دور في الثورة، بتقديمهم أعمالاً تُعبّر عنها. واللافت للانتباه التضامن مع القضية الفلسطينية، عبر صُوَر ياسر عرفات في الشوارع، ورغبة الناس في التقاط صُور لهم قربها.

وثائقي ثالث، ذو كادرات رائعة وموضوع مؤثّر، بعنوان "البحث" (1980) لأمير نادري، يهتمّ بقضية المفقودين أثناء الثورة، وبحث عائلاتهم عمّا يدلّ عليهم، مهما يكن بسيطًا. يتناول كيفية إخفاء نظام الشاه جثث مُتظاهرين، برميها في مستوعبات القمامة أو في بحيرة مالحة قرب طهران. في مَشَاهد لا تُنسى، يُصوّر نادري واقعًا موجعًا، عبر عينيّ أمٍّ تبكي، وطلقات رصاص تخترق الأجساد، و شعارات يتردّد صداها، وريح تعصف بتراب مقبرة مليئة بالضحايا، وطفل يلعب فيها، ونساء متّشحات بالسواد يبكين فقيدًا.

"ايران، ثورة سينمائية" (2007)، لنادر تكميل همايون، يربط الحدث التاريخي بالسينما، مع أنه، كما يقول المخرج، لقاء مع المخرجين (بهرام بيضائي وداريوش مهرجوي ومحسن مخملباف، إلى مسؤولي مؤسّسات شاهدين على الثورة) أكثر منه حديثًا عن تاريخ السينما، بل إثارة لتاريخها وتاريخ إيران، عبر الحديث معهم. يُشير هؤلاء إلى أنّ الانقلاب في تاريخ إيران القرن الـ20 "انقلابٌ" في السينما الإيرانية أيضًا. شهاداتهم تعكس إلى أي مدى كانت السينما في المخيال الشعبي رمزًا من رموز النظام، والتأثير الأميركي في البلد. في استعادة أبرز مراحل السينما الإيرانية قبل الشاه وبعد الثورة، يُظهر الفيلم استفادة إيران من خبرة هاربين من الثورة الروسية (1917)، لصنع فيلم إيراني، وأوّلهم الأرمني حاجي آغا أكتور (1933). كما يتناول منع "جنوب المدينة" (1958) لفرخ غفاري، أول خارجٍ من الاستديو لتصوير بؤس المدينة، علمًا أنّ الاقتراب من الحقيقة حينها ممنوعٌ، وهدف السلطة طمس الحقائق، والاتهام جاهز: "الروس دفعوا للمخرج لإظهار إيران على هذا النحو".
يركّز فيلم همايون على وضع السينما الإيرانية في السبعينيات الفائتة، كانعكاس لموقف الناس والمسؤولين منها، مباشرة بعد الثورة. فرغم بدء ظهور مخرجين ولدت معهم السينما الإيرانية الجديدة، بين عامي 1969 و1974، وتحقيق أفلام باتت "علامات" لهذه السينما، كـ"قيصر" (1969) لمسعود كيميائي، و"البقرة" (1969) لداريوش مهرجوي، و"وداعًا يا صديق" (1971) لأمير نادري، و"مسافر" (1974) لعباس كيارستمي، ثم تتويج هذا كلّه بـ"حدث بسيط" (1974) لشهيد سالس، الذي يُعتبر بداية السينما المختلفة في إيران؛ رغم هذا كلّه، فإنّ الاستهلاكية وأفلام الدرجة العاشرة (التي بدت المرأة فيها غرضًا للمتعة الجنسية)، كانت الغالبة، في مرحلة ميّزها ارتفاع أسعار البترول، ووفرة المال السهل. 

في 9 أشهر بعد الثورة، أُغلِقَت 159 صالة. فبحسب مهرجوي، بات يُنظر إلى السينما (حينها) كـ"بيت دعارة" تُعرض فيها "أفلام بورنو تقريبًا"، والمرأة "تمضي وقتها في البار". لكن فيلمًا مُصوَّرًا أيام الشاه يأتي في مرحلة ما بعد الثورة: "البقرة" لمهرجوي نفسه. هذه سينما مهتمّة بالمحرومين. معها، بدأت مرحلة تساؤلات عن المطلوب من السينما في ذلك العهد. كما أُنشئت "مؤسّسة الفارابي"، ووضعت أهداف للسينما، تتلخّص بـ"إشراف دعم إرشاد".

المساهمون