مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي: "الحقيقة" مجرّد فيلم افتتاح

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي: "الحقيقة" مجرّد فيلم افتتاح

01 سبتمبر 2019
دونوف وهيروكازو كوري ـ إيدا وجولييت بينوش (Getty)
+ الخط -

مساء الأربعاء الفائت في 28 أغسطس/ آب 2019، افتُتحت الدورة الـ 76 لـ"مهرجان فينسيا السينمائي الدولي"، التي تنتهي في 7 سبتمبر/ أيلول 2019. في 11 يومًا، سيتابع عشّاق السينما مسابقات رسمية وفرعية وتظاهرات واستعادات ومعارض، تُقام كلّها في جزيرة الـ"ليدو"، المقرّ المشهور للمهرجان.

كالعادة، كان فيلم الافتتاح مجرّد فيلم افتتاح. فلأسبابٍ ما، يختار مديرو المهرجانات الكبرى افتتاح دورات مهرجاناتهم بأفلام يمكن وصفها بالـ"خفيفة"، فتكون غير صادمة وغير إشكالية، ولا تغرق في الفنّية. ويُفضّل طبعًا أنْ "يحتوي" الفيلم على عدد كبير من النجوم والنجمات، الذين يمشون معًا على البساط الأحمر. ثم بعد ليلة سهر لطيفة، وتبادل المجاملات وعبارات الترحيب، يبدأ عشّاق السينما متابعة واستكشاف الجديد والمثير في مختلف الأقسام.

الأمر نفسه انطبق على فيلم افتتاح "لا موسترا 2019"، بعنوان "الحقيقة"، للياباني هيروكازو كوري ـ إيدا، المُشارك في المسابقة الرسمية أيضًا، إلى جانب 20 فيلمًا. فهو بامتياز فيلم افتتاح مهرجان، تسهُل مُشاهدته من دون إرهاق، أو كثرة تفكير، أو تأويل للأحداث أو الشخصيات. طريف بعض الشيء، يخلو من التعقيد والتركيب. نجمتان كبيرتان تقودانه، هما كاترين دونوف وجولييت بينوش، ولهما محبّون ومعجبون كثر في العالم. حضرتا الافتتاح، ومشتا على البساط الأحمر. أي إنّ الشروط الكاملة لافتتاح المهرجان تحققت بشكل ناجح ومبهر، ومن دون تعقيدات أو تشديدات أمنية.

بالنسبة إلى النقّاد والصحافيين الذين شاهدوا الفيلم، والمُطّلعين على أعمال كوري ـ إيدا (1962)، فإنّ "الحقيقة" مُخيّبٌ جدًا للآمال. لم يقترب ولو قليلًا من مستوى فيلمه السابق "سارقو المتاجر" (2018)، الحائز "السعفة الذهبية" في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كان" السينمائي. المثير للانتباه أن كوري ـ إيدا، الحائز جوائز فنية عديدة ورفيعة من مهرجانات مختلفة، لم ينل أبدًا أيّ جائزة من "مهرجان فينيسيا"، ولم يحظ فيلمه "الجريمة الثالثة" (2017) مثلاً، بترحيبٍ أو تفاعلٍ نقديين، عند عرضه في المسابقة الرسمية لـ"لا موسترا" قبل عامين.

لذا يُمكن القول، استباقًا للأحداث ولعروض المسابقة، إنّ حظوظ "الحقيقة" في الفوز بجائزة ولو شرفية، بعيد المنال للغاية. الفيلم ليس سيئًا كلّيًا، فمخرجه متمرّس ومخضرم، يُجيد صناعة فيلم جيّد ومحبوك، وقيادة وتوجيه اثنتين من أهم الممثلات الفرنسيات. لكن، لو نُزِع اسمه عن الفيلم، ووضع بدلًا منه أيّ اسم آخر، فلن يتغيّر الكثير. بصماته واضحة في مَشَاهد عديدة، كما في الحوار والسيناريو، الذي كتبه مع ليا لُو دَمْنا. لكن هناك ما هو مُفتَقَد، إذْ يبدو المخرج وكأنّه في غير مكانه، أو كأنّه يتلمّس خطواته في عالم غريب عليه بعض الشيء.



"الحقيقة" أول فيلم ناطق بلغة غير اليابانية لهيروكازو كوري ـ إيدا. كما أنّها المرّة الأولى التي يُخرج فيها فيلمًا خارج بلده. هل معنى هذا أن الفنان يتأثّر بلغته وموطنه وبيئته إلى هذا الحدّ؟ ربما. لكن الأمر مُتفاوت، ومردّه شخصية المخرج. تجربة كوري ـ إيدا ليست الأولى في تاريخ السينما، ولن تكون الأخيرة. أسماء كثيرة لامعة سبقته في خوض التجربة خارج بلدها ولغتها، كالإيطالي مايكل أنجلو أنتونيوني في "نقطة زبريسكي" (1970)، والسويدي إنغمار برغمان في "اللمسة" (1971)، وغيرهما. التجربتان غير موفّقتين، على نقيض تجربة البولندي كْسيستوف كيشلوفسكي، في ثلاثية "أزرق" (1993) و"أبيض" (1994) و"أحمر" (1994)، الموفّقة للغاية، فنيًا وإخراجيًا وإنتاجيًا، رغم أنّ الإنتاج فرنسي، والمخرج يجهل الفرنسية، والتصوير خارج بلده.

في "الحقيقة"، حاول هيروكازو كوري ـ إيدا الغوص داخل الشخصيتين الرئيستين، تحديدًا: النجمة السينمائية المخضرمة "فابيان" (دونوف) وابنتها كاتبة السيناريو "لوميير" (بينوش). كذلك، حاول إبراز مدى تعقّد العلاقة بينهما، وتشابكها، والنقاط المشتركة بينهما؛ كما حاولت دونوف وبينوش تقديم أداء جيد. الأداء مُقنع، لكن هناك ما هو مفقود على الشاشة. هناك برودة طاغية، وعدم تفاعل، ولا استمتاع. أحيانًا، هناك ملل.

يبدأ الفيلم بحوار صحافي مع "فابيان" بمناسبة صدور مذكّراتها، بعنوان "الحقيقة". في الوقت نفسه، تصل لوميير، رفقة زوجها "هانك" (إيثان هوك)، وهو ممثل تلفزيوني متواضع الموهبة، ومدمن كحول، مع ابنتهما "شارلوت" (كليمانتين غرونييه)، للاحتفاء بها وتهنئتها بصدور مذكّراتها. لاحقًا، مع قراءة "لوميير" المذكرات، تكتشف كذبًا وخداعًا، ما يدفعها إلى مواجهة والدتها. أولاً، ذكرت فابيان أنها كانت تذهب إلى المدرسة يوميًا لإحضار ابنتها، وهذا لم يحدث مرة واحدة، كما تقول لوميير. ثانيًا، شهدت تجربة أداء ابنتها الصغيرة ممثلةً في المدرسة، في مسرحية "الساحر أوز"، وهذا لم يحدث أيضًا. "فابيان"، القوية والنرجسية والباردة، تدرك جيدًا قواعد اللعبة. تقول لابنتها: "أنا ممثلة مشهورة. لن أقول الحقيقة المجرّدة، فهي ليست مثيرة للاهتمام، بالنسبة إلى الجمهور". هذا ما تراه "فابيان" بخصوص أمور حياتية كثيرة، بما فيها علاقتها بابنتها وزوجها السابق.

في الوقت نفسه، تعمل "فابيان" التي باتت في سبعينياتها، والفائزة بجوائز مهمّة، في فيلم جديد مع ممثلتين شابّتين. بالنسبة إليها، هذا مجرّد فيلم، فهي غير مُعجبة بالمخرج وبالسيناريو، وبطاقم العمل. مجرّد عمل تؤدّيه ليظلّ اسمها يتردّد. لذا، يتنقّل هيروكازو كوري ـ إيدا، بين الفيلم الذي يجري تصويره، والحياة في المنزل الريفي، حيث تجتمع عائلة "فابيان". مع هذا الفيلم، داخل الفيلم الأصلي، وعبر شخصية "فابيان" كممثلة وابنتها ككاتبة سيناريو، يمكن القول إنّ كوري ـ إيدا يقدّم تحية بسيطة للسينما والسينمائيين، أرادها عميقة ورصينة. لكن، يبدو أن التجربة لم تُدرَس كفاية، والسرعة سيدة الموقف. 
وعلى غرار بطلته "فابيان"، يبدو أنّ قبول هيروكازو كوري ـ إيدا العمل في إخراج فيلمٍ خارج بلده، مع ممثلين يجهلهم ولغة لا يعرفها، "مجرّد عمل". لذا، فـ"الحقيقة" مجرّد فيلم.

دلالات

المساهمون