رمضانيات: دموع أم علي وقناني قمر الدين

رمضانيات: دموع أم علي وقناني قمر الدين

14 يوليو 2014
قمر الدين كدموع.. الصورة (جاستن بيرنهوت/ GETTY)
+ الخط -

جلّ أبنية الزاروب الضيّقة، في الأحياء البيروتية، بُنِيَت على غفلة خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة. منها حيّ شعبيّ في بيروت تتدلّى منه صفائح "الإترنيت" كمظلّات خفيفة لبيوت هشة. هنا قد ترى سطحاً واحداً لمبنيين منفصلين. 

في الحيّ هذا منشر غسيل للعموم على مصطبة مشتركة بين أربعة بيوت. وفي الحيّ مطبخ صغير لـ"أبو علي" يعبق برائحة ماء الزّهر في شهر رمضان. زوجته تطهو شراب قمر الدين، وهو يقوم بتحريك القدر المرتكز على "وابور" الكاز.

اقترض الرجل الستينيّ، الذي هجره أبناؤه، مبلغاً من المال، في بداية رمضان. ركن أبو علي طاولة من الخشب، صنعها بيده، في أوّل الحيّ. افترش الرصيف يستعرض شراب "قمر الدين". اشترى السُّكر وماء الزهر وكمية لا بأس بها من المشمش المجفّف، جلس وزوجته في المطبخ الصغير، وراحا يحصيان أعداد قناني الشراب. بحسبة بسيطة افترض الزوجان أنّ العملية قد تصبح مربحة بعد بيع عشر قنان من شرابهما المميّز.

عاد الرجل قبيل الإفطار يوماً، وقد تبلّلت ثيابه ببقع مشروب "قمر الدين". فهمت أمّ علي أنّه رفض دفع "الديّة". رفعت كفّيها بيأس متضرّعة: "يا ربّ نِخلص من الزعران". حضنت زوجها وأخذت تمسح عنه آثار الشراب: "معقول هيك طيب هالزعران؟ يلي بدهن مصاري... لازم حدا يضبّهن! روح اشتكي للمخفر. وخبّر الدّولة إنّو في زعران وبلطجيّة عم بهدّدوك ويضربوك إذا ما بتدفعلهن خوة".

تشجّع الرجل، وتوجّه الى المخفر. سرد على مسمع الضابط الشاب قصّة "القبضايات" وتعدّيهم الدّائم على بسطته المتواضعة. فابتسم الضابط وسأله: "هل تعرف أسماءهم؟". تردّد الرّجل قليلًا ثم أجاب: "وَلَوْ يا سيدنا. إنتوا بتعرفوهون. ما في حدا غيرهن بالمنطقة معو سلاح". فاعتدل الشرطي في جلسته وعدّل ياقة البدلة الميري، سعل سعالا خفيفاً، ثمّ رسم ابتسامة ساخرة وسأل مجدّداً: "والله؟ وانت يا عم ليش مخالف الدولة وفاتح بسطة على رصيف عام؟ معك رخصة؟".

"رقيب أوّل!"، صرخ الضّابط: "يا رقيب، خود العمّ على الحجز وفتاح محضر مخالفة".

حرّكت أمّ علي قدراً آخر من شراب قمر الدين، جلست أمام النافذة التي هشّم الزمن أخشابها. مضى الإفطار، ثم العشاء، ثم الإمساك. استيقظت فوق كنبة أبوعلي. فتحت باب المنزل ونادت: "يا ولاد الحلال. مين يخبّرني عن أبو علي؟ مين؟ نشّفوا دموعي. وخلصوا قناني قمر الدين...".

المساهمون