رحلة مرسي بحثاً عن العدالة: من السجن لمحكمة باطلة

رحلة مرسي بحثاً عن العدالة: من السجن لمحكمة باطلة

19 يونيو 2019
أصر مرسي على عدم اختصاص محكمة الجنايات بمساءلته(أحمد عمر/الأناضول)
+ الخط -

منذ ظهوره للمرة الأولى أمام محكمة الجنايات المنعقدة في معهد أمناء الشرطة بطرة، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2013، رفض الرئيس المصري الراحل محمد مرسي المثول أمام هذه المحكمة باعتبارها غير مختصة بمحاكمته ومساءلته عن التهم الموجهة له. وتعددت التهم الموجهة إلى مرسي في عدة قضايا، بين الهروب من السجن بعد اعتقاله غير الشرعي في يناير/كانون الثاني 2011، والتخابر مع حركة حماس، والتخابر مع دولة قطر، والتخطيط لأحداث الاتحادية الدامية، وإهانة القضاء المصري وسب وقذف أحد القضاة، فضلاً عن تهمة ثابتة في كل القضايا تتمثل في قيادة جماعة إرهابية، هي جماعة الإخوان المسلمين والانتماء لها.

ومنذ ذلك اليوم وحتى أول من أمس، عندما توفي داخل قفص حديدي معزول صوتياً، كان مرسي مصراً على عدم الإفصاح، أو الإعلان، أو حتى الإشارة إلى أسرار اللحظات الأخيرة له في قصر الرئاسة المصرية ودار الحرس الجمهوري، أي منذ عشية تظاهرات 30 يونيو/حزيران وحتى انقلاب وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي عليه في 3 يوليو/تموز 2013. وقال مرسي، في أول ظهور له، "أنا الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية. ما حدث انقلاب عسكري، وهذه المحكمة يجب أن تُخصص لمحاكمة قادة الانقلاب وليس محاكمتي". وفي آخر ظهور له ردد، بحسب محامين حضروا الجلسة، بيت الشعر الشهير لقتادة بن إدريس القرشي: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة... وأهلي إن ضنوا عليّ كرام"، ليسقط بعدها مغشياً عليه.

وبين الإصرار على أنه ما زال الرئيس الشرعي للبلاد، وبين دفع حياته ثمناً لهذه الشرعية، كما وعد في آخر ظهور تلفزيوني له قبل الانقلاب عليه، رفض مرسي، طيلة عشرات الجلسات التي عقدت برئاسة قضاة مختلفين، أن يعترف بالقضاء الجنائي العادي كمحكمة مختصة لمساءلته، وكان يتمسك دائماً بأنه كرئيس جمهورية، أو حتى كرئيس سابق، فإنه يملك من المعلومات والأسرار ما يوجب مثوله أمام "محكمة خاصة"، يستطيع فيها الإفصاح عن تفاصيل لا يرغب حتى في إعطائها لمحاميه، وفقاً لحديثه للمحكمة عدة مرات. وربما تكون إجراءات محاكمة مرسي هي الأكثر غرابة وإنكاراً للعدالة في تاريخ القضاء المصري، فأول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر تعرض لإخفاء قسري تام منذ عزله من الحكم وحتى ظهوره في المحكمة في خريف العام 2013. وخلال تلك الفترة، التي ناهزت 4 أشهر، كان يتنقل بين معتقلات عسكرية مختلفة، وتم التحقيق معه بصورة غير قانونية ودون حضور محاميه عدة مرات، وتمسك بالصمت وضرورة محاكمته أمام محكمة خاصة بمحاكمة رؤساء الجمهورية، إلى أن صدر أول قرار اتهام ضده في سبتمبر/أيلول من العام 2013 في قضية أحداث الاتحادية.


وخلال جلسات المحاكمة اكتشف محامو مرسي أنه كان محبوساً، طوال تلك المدة، في وحدة "الضفادع البشرية" بقاعدة أبوقير البحرية بالإسكندرية، وأنه قد حدث تواطؤ فاضح بين السيسي ووزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم، ليصدر الأخير قراراً بتاريخ قديم، باعتبار قاعدة أبوقير البحرية سجناً شرطياً شديد الحراسة، وبالتالي أضفت السلطة صفة قانونية على مكان احتجاز مرسي وعدد من مساعديه في تلك الفترة، كان من بينهم مدير مكتبه أحمد عبد العاطي ومساعد رئيس ديوان رئيس الجمهورية أسعد الشيخة. وفي تلك المرحلة من المحاكمة كان مرسي يرفض تماماً توكيل محامين بشكل رسمي، اعتراضاً على إجراءات المحاكمة التي لا تليق بمنصبه كرئيس للجمهورية، فوكلت له المحكمة، بموجب القانون، محامياً التقاه مرتين فقط في حضور ضباط من الحراسات وقطاع السجون، لكن مرسي لم يدل له بأي تفاصيل. وقبل مرسي أن يوكل محامياً شهيراً وله باع في القضايا الجنائية الشائكة، هو كامل مندور، لكنه لم يُمكّن من لقائه أيضاً طوال عامين، ما جعل محاكمته أشبه بـ"الغيابية" وهو حاضر في قفص الاتهام، فهو لم يحظ على الإطلاق بحق الاطلاع على الأوراق ولا الشهادات ولا الرد عليها ولا اللقاء بزوجته وأبنائه، كما لم يُمكّن من لقاء المقربين منه المحبوسين، كعقاب على توجيه بعض رسائله إلى الشعب المصري من خلال وسطاء خلال العامين 2013 و2014.

ورغم أن بعض المراقبين، حتى من المؤيدين لمرسي، كانوا يلومون مطالبته الدائمة باتباع الإجراءات الدستورية في محاكمته، باعتبارها مطالبات دستورية وقانونية، إلاّ أنه كان مصراً على تجديد مطالبته ودفعه بعدم اختصاص محكمة الجنايات بمساءلته حتى اللحظات الأخيرة في حياته، عندما قال، بحسب محامين حضروا الجلسة، إنه "لن يدلي بأي تفاصيل من خزينة الأسرار (التي أشار لها في مرافعته محاميه كامل مندور) إلاّ أمام محكمة خاصة برئيس الجمهورية وفقاً للدستور، حرصاً على المصلحة العليا للوطن وحتى لا تقع مصر في الفوضى".

والواقع الدستوري المصري يوضح ببساطة أن مرسي توفي أمام محكمة ما كان يجب أن يظهر أمامها. فالرئيس المدني المنتخب، مُخاطب بصراحة بالمادة 159 من الدستور الخاصة بمحاكمة رئيس الجمهورية أو اتهامه بانتهاك أحكام الدستور أو الخيانة العظمى. وفي عهد مرسي، وعند وضع دستور 2012 أخذت الجمعية التأسيسية المنبثقة من أول برلمان انتخب بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 خطوة تقدمية، فوضعت المادة 152، التي تنص على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بارتكاب جناية أو بالخيانة العظمى بناء على طلب موقع من ثلث أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس.

ويحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى وبعضوية أقدم نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف". وحافظ دستور 2014 في المادة 159 على نفس التشكيل تقريباً، فأصبحت المحكمة الخاصة برئيس الجمهورية مكونة من "رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، ويتولى الادعاء أمامها النائب العام". وبناءً على مخاوف لجنة الخمسين، التي وضعت الدستور، من تكرار ما وصفته مراراً بـ"خروج مرسي عن الشرعية الدستورية"، فقد استحدثت نصاً يسمح بتحريك الدعوى الجنائية ضد رئيس الجمهورية، ليس فقط بسبب "الخيانة العظمى أو أي جناية" بل أيضاً بسبب "انتهاك أحكام الدستور"، وفي هذه الحالة يحيل مجلس النواب إلى تلك المحكمة، المفترض وفقاً لنفس الدستور أنها مستقلة، الرئيس لتحاكمه وتقرر ما إذا كان بريئاً أم مذنباً، بل وتحدد المحكمة ما إذا كان صالحاً للاستمرار في منصبه أم لا. ورغم تحالف القضاء مع السلطة الحاكمة في مصر وإمكانية صدور أحكام مسيسة من هذه المحكمة الخاصة، إلاّ أن السيسي لم يسمح بمحاكمة مرسي أمام هذه المحكمة المخصصة لمحاكمة الرؤساء، الحاليين والسابقين والمخلوعين، وهو خيار لا يمكن تفسيره إلاّ بمنع تكريس سابقة أن يحاكم رئيس الجمهورية السابق محاكمة عادلة وشفافة وعلنية. ومن المقرر الآن بعد رحيل مرسي أن يصدر الحكم في القضيتين المتبقيتين له وهما: الهروب من السجن، والتخابر مع حماس "بانقضاء الدعوى الجنائية لوفاة المتهم".