وثائق ميتروخين [1/5]...تفاصيل الاختراق الروسي لسورية منذ السبعينات

وثائق ميتروخين [1/5]...تفاصيل السقوط السوري في حضن موسكو منذ عهد الأسد الأب

21 ابريل 2018
المخابرات السوفييتية زرعت أجهزة للتنصت بمقر للمخابرات السورية(فرانس برس)
+ الخط -
في عام 1992 استطاع الكولونيل فاسيلي ميتروخين، أمين المحفوظات السابق لجهاز المخابرات السوفييتية "كي جي بي"، الهرب إلى لندن بعدما نسخ آلاف الوثائق السرية على مدى عشر سنوات، أخفاها لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حتى جرى تهريبها إلى بريطانيا.

وتعد وثائق ميتروخين المحفوظة اليوم في أرشيف تشرشل بجامعة كامبردج أهم مصدر فردي للمعلومات الاستخباراتية يحصل عليه الغرب من روسيا، وفقا لتقييم المصادر الاستخباراتية الأميركية والبريطانية.

ومن أجل الاطلاع على تلك الوثائق، توجهت "العربي الجديد" إلى أرشيف تشرشل وترجمت الوثائق المكتوبة بالروسية والتي تخص عالمنا العربي وتستعرضها في ملف من 6 حلقات ينقل ما جاء فيها دون تبني روايتها.
ونحن إذ ننقل ما جاء في هذه الوثائق إلى العربية، فإنما نطل في ذات الوقت على نمط من التفكير السوفياتي في تلك الفترة الذي كان يتعامل مع الأحزاب الشيوعية والمنظمات الصديقة من زاوية المصالح حتى أن الأجهزة السوفياتية كانت تصنف التعاون في كثير من الأحيان في خانة العمالة، وهذا أمر يصيب بالسوء سمعة شخصيات عربية من سورية وفلسطين والعراق معروفة بتاريخها النضالي الناصع مثل وديع حداد وماجد أبو شرار وصلاح خلف وحسين العودات..إلخ.
وكانت البداية من سورية، التي تعرضت لاختراق واسع المستوى قياسا بأي بلد عربي آخر ورد ذكره في الوثائق.

المتعاونون

تضم قائمة المتعاونين مع "كي جي بي" في سورية عددا من كبار المسؤولين، من بينهم أمين عام وزارة الخارجية السورية، صلاح الدين الطرزي، الملقب بـ"عزت" والذي بدأ التعاون منذ عام 1954، بينما جاء تصنيف وزير الشؤون الاجتماعية والموارد المائية، عبد الغني قنوت، الملقب بـ"نيك"، كـ"اتصال موثوق به" منذ عام 1971.

وعلاوة على ذلك، شملت القائمة عددا من كبار المسؤولين العسكريين، وفي مقدمتهم رئيس قسم المعلومات والتحليل بإدارة الاستخبارات بهيئة الأركان العامة للجيش السوري، إلياس رزق، والملقب بـ"صقر"، وجرى التعاون معه في عام 1974.

وتوضح إحدى الوثائق أن السوفييت استخدموه لـ"إيصال معلومات تصب في مصلحة "كي جي بي" إلى الرئيس والقيادة العليا للجيش السوري في ما سمي قناة "إمبولس"، "وكانت اللقاءات معه تعقد بشقة سرية".

وشملت القائمة أيضا أسماء بعض الصحافيين الكبار، مثل نائب رئيس تحرير وكالة "سانا" للشؤون السياسية، ياسين نويلاتي، الملقب بـ"ألف"، والذي جرى التعاون معه منذ عام 1967، والمدير السابق لـ"سانا"، مستشار رئيس الوزراء، حسين العودات، الملقب بـ"باتريوت"، والذي تمت إقامة قناة معه لإيصال معلومات موجهة إلى القيادة السورية.


اختراق أسرة الأسد

في سورية تحديدا، ذهب "كي جي بي" حتى أبعد مدى، متمكنا من اختراق دائرة حافظ الأسد نفسه، إذ تؤكد وثائق ميتروخين أن الاستخبارات السوفييتية أقامت منذ عام 1974 "اتصالات موثوق بها" مع نجل شقيقة الأسد، عبد الله بري، الملقب بـ"كاريب"، والذي كان يشغل منصب رئيس ديوان مجلس الوزراء السوري.

وتشير إحدى الوثائق إلى أن "كي جي بي" كان يحصل من "كاريب" على "معلومات من محيط الأسد وحول السياسة الخارجية والداخلية والعربية والعسكرية"، وتصف معلوماته بأنها كانت "قيّمة وموثوقا بها".

وشملت القائمة أيضا الشقيق الأصغر للرئيس السوري، رفعت الأسد، الملقب بـ"منذر"، وتصنفه إحدى الوثائق كـ"علاقة ثقة"، مشيرة إلى أن الاتصال معه كان "شبه رسمي" وكان يتم استخدامه "دون علمه".

التنصت على المخابرات العسكرية

في عام 1964، نفذ "كي جي بي" عملية أطلق عليها اسم "روتشيه" لزرع أجهزة للتنصت بمقر للمخابرات الحربية السورية، وتوضح إحدى الوثائق أن العملية نفذت بواسطة عميل لقبه "كريم" تم زرعه في مقر للمخابرات الحربية بالمكتب الثاني لهيئة الأركان العامة للجيش السوري في دمشق.

وتسلط وثيقة أخرى الضوء على شخصية "كريم"، واسمه الحقيقي ثائر القاسم، وهو من مواليد عام 1936، وتخرج من جامعة هومبولت في برلين الشرقية في عام 1962، وجنده "كي جي بي" في العام ذاته، وجرى النظر في استخدامه لتضليل القيادة السورية عن طريق إيصال معلومات مضللة عبره.

اعتراض الحقائب الدبلوماسية

بحسب وثائق ميتروخين، فإن "كي جي بي" حقق نجاحات لا مثيل لها في اختراق السفارة السورية بموسكو وصلت إلى درجة زرع أجهزة للتنصت بمكتب السفير وغيره من مكاتب السفارة، والاطلاع على محتوى الحقائب الدبلوماسية، بما فيها الخطابات المصنفة كـ"سرية" والمراسلات بين السفير جميل شايع ووزير الخارجية السوري آنذاك عبد الحليم خدام، والذي صار لاحقا نائبا للرئيس السوري ثم انشق عن النظام في نهاية العام 2005.


وتتضمن الوثيقة أكثر من 30 لقبا واسما لمصادر استخدموا لاختراق السفارة السورية، وكان أغلبهم من مواطني الاتحاد السوفييتي وبعض السوريين، بمن فيهم السفير نفسه المصنف كـ"اتصال موثوق به"، والملحق الثقافي، رضوان عبد الله، وموظف مكتب المشتريات العسكرية بالسفارة عز الدين سعد الدين، ويحيي جميل المصنف كـ"اتصال موثوق به"، الذي سبق له أن عمل في السفارتين السوريتين في البرازيل وإيطاليا قبل إيفاده إلى موسكو، والملحق خليل أبو حديد الملقب بـ"ستودينت"، بالإضافة إلى عدد من الألقاب بلا أسماء حقيقية.

وتكشف الوثيقة ذاتها جانبا من شخصيات ومواقف آراء الدبلوماسيين، مثل تأكيداته أن "القيادة العربية لا تنوي القضاء على إسرائيل في السنوات الـ5 - 10 أو ربما الـ15 المقبلة"، وقبيل حرب أكتوبر، كشف السفير في محادثة مع العميل "أوسيبوف" في سبتمبر/ أيلول 1973، أن "المهمة للسنوات المقبلة هي إلحاق ضربة جزئية بإسرائيل لإنهاء أسطورة استحالة النصر على إسرائيل"، مشيرا إلى أن ذلك "سيكون ضربة نفسية ستمنع تدفق المهاجرين ورؤوس الأموال إلى إسرائيل"، ومن خلال هذه الأقوال، استنتج "كي جي بي" أن السفير كان يتوقع حرب أكتوبر 1973.


إغراء السفير

استغلت الاستخبارات الروسية ضلوع الدبلوماسيين والسفير السوري في تجارة العملة بالسوق السوداء للضغط عليهم، كما جرى اختبار مدى قابليتهم للدخول في علاقات نسائية، إذ أفادت العميلة "سوكولوفا" المزروعة كموظفة بالسفارة، بأن السفير "مهتم" بها، بينما تعرفت العميلة "فاسيلييفا" عليه خلال حفل استقبال بالسفارة المصرية، في مناسبة أخرى ومن أجل إجراء "عملية خاصة" بالسفارة، تمت دعوة السفير إلى رحلة صيد برفقة عملاء "كي جي بي" لضمان غيابه عن السفارة.

العمل في السعودية وإيران

ذكرت وثائق أرشيف ميتروخين أن مسؤولا رفيعا بالحزب الشيوعي السوفييتي عقد في موسكو لقاء مع أمين عام الحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، والملقب بـ"بشير"، وأمين عام الحزب الشيوعي العراقي، عزيز محمد، والملقب بـ"الرئيسي"، وطلب خلاله ترشيح اثنين أو ثلاثة أشخاص عن كل حزب للتعاون مع "كي جي بي".

وحدد المسؤول بضعة شروط يجب توفرها في المرشحين، بما فيها الولاء للحزب الشيوعي، والانحياز لمواقف ماركس ولينين، وخبرة العمل الحزبي غير المشروع، وشهرة محدودة في بلدهم، والقدرة على تحليل وتعميم المعلومات السياسية، على ألا تزيد أعمارهم عن 45 عاما وأن يكونوا بصحة جيدة، ويفضل ألا يكونوا متزوجين.

وتوضح الوثيقة أن هؤلاء كانوا سيعملون في السعودية وإيران، ولذلك اشترط فيهم أن يجيدوا اللغة الإنكليزية أو الفارسية وأن يستطيعوا الحصول على تأشيرة دخول لأحد هذين البلدين بمعرفتهم، وتشير وثيقة أخرى إلى أن بكداش رشح كرديا سورياً يدعى محمد أديب كاسو (من مواليد عام 1941)، والملقب بـ"مهندس" لهذه الوظيفة، ليتلقى تدريبا خاصا في موسكو في عام 1976، إلا أن "كي جي بي" والحزب الشيوعي فقدا الاتصال به بعد انتقاله إلى السعودية.

وفي فبراير/ شباط 1980، عقد لقاء بين مسؤول رفيع بـ"كي جي بي" وبكداش الذي لم يستبعد أن "مهندس ربما أظهر جبنا وطمعا في التربح"، وبحلول عام 1982، تم استبعاد "مهندس" من شبكة عملاء "كي جي بي"، إذ تشير الوثيقة إلى "تنصله من التعاون دون طرح هذه المسألة بشكل مباشر بسبب جبن العميل في ظروف قوة نظام الاستخبارات المضادة في السعودية وعدم تثبيته في عمله وضعف العمل الأيديولوجي والتربوي معه".


دعم مالي وعسكري

كان الحزب الشيوعي السوري يحصل على دعم مالي هام من موسكو، إذ تسلم بكداش مبلغا وقدره 100 ألف دولار أميركي في دمشق في مارس/ آذار 1982، وذلك من بين المبلغ الإجمالي وقدره 250 ألف دولار خصصه الحزب الشيوعي السوفييتي للحزب الشيوعي السوري في ذلك العام.

وفي يناير/ كانون الثاني 1983، تلقى مقر "كي جي بي" في دمشق مبلغا وقدره 80 ألف دولار على سبيل الدفعة الأولى لتمويل الحزب الشيوعي للعام ذاته. ولم يقتصر دعم الشيوعيين السوريين على تمويلهم، بل استقبل الاتحاد السوفييتي أعدادا كبيرة من الدارسين من بينهم، وبلغ عدد من تم إيفادهم في عام 1978 وحده 108 أشخاص، وكان أغلبهم من بين معارف وأقرباء قيادات الحزب الشيوعي السوري.

واقتصاديا، ساهم "كي جي بي" في إبرام عقود مربحة مع ممثلي الحزب الشيوعي السوري لتصدير منتجات الحرير والقطن السورية إلى الاتحاد السوفييتي، ما شكل مصدرا إضافيا لتمويل الحزب.

وبحسب إحدى الوثائق، فإن الدعم السوفييتي للشيوعيين السوريين لم يتوقف عند هذا الحد، بل تم تزويدهم في عام 1980 بـ75 مسدس "ماكاروف" وأكثر من 5 آلاف رصاصة لها، وذلك بعد نقلها إلى دمشق على متن طائرة لم تخضع لأي تفتيش جمركي.

ولم يخف بكداش امتنانه لـ"كي جي بي"، إذ وصفه خلال أحد اللقاءات بشقة سرية بأنه "الجهاز السوفييتي الوحيد الذي كان ولا يزال هناك تفاهم معه في مختلف القضايا"، متقدما بـ"بالغ الشكر" ليوري أندروبوف الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس "كي جي بي".

دلالات