خالد النجّار: تروبادور تونسي في المنفى (1- 3)

خالد النجّار: تروبادور تونسي في المنفى (1- 3)

29 ديسمبر 2018
(خالد النجّار، تصوير: أنيت هاك)
+ الخط -

شاعرٌ ومترجِم ورحّالة وناشر؛ أربعة أوصاف عامة، ربما لا تحيط بتجربة التونسي خالد النجّار، لما لها من خصوصية. مع ذلك، تبدو ضروريةً في هذا الحوار المطوّل الذي جرى في مدينة برشلونة التي يزورها للمرّة الخامسة. وفيه يتحدّث عن رؤيته للشعر مستعيداً بداياته الأولى، والهجرة والسياسة وفشل الدولة الوطنية.


■ تعيش في قلب أوروبا منذ عقود. كيف ترى نظرة الأوربيين إلى منطقتنا وأحوالنا اليوم؟
- ظلّ الانسان في أوروبا، ومنذ القرون الوسطى، سجين صورة نمطية رسمَتها الكنيسة عن العرب والمسلمين، وهذا طبيعي، فالمسلمون استولوا على كل ممتلكات الإمبراطورية الرومانية جنوب المتوسّط من الهلال الخصيب حتى المغرب الأقصى.

وأيضاً، أخذ المسلمون القسطنطينية وهي عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كما لو يقع اليوم على مدينة مثل لندن أو برلين أو باريس. وقبل القسطنطينية، استولى المسلمون على الأندلس. كانت هناك حروب صليبية وفرسان مالطا، تلك الكتيبة العسكرية المسيحية التي تشكّلت لمحاربة المسلمين. واحتلال المسلمين بلادَ البلقان ومحاصرة الجيش العثماني لفيينا التي أطلق عليها قائد الجيوش العثمانية اسم النمسا لأنه ظل يرميها ثمانية أشهر بالمدافع دون أن تردّ الفعل، فقال: "هذه النمسة"، أي ذلك الحيوان الذي يجمد إذا ما ضربته فتظن أنه ميت.

إذن، تاريخ الصراع مع أوروبا المسيحية طويل ودموي منذ الفتوحات الإسلامية الأولى في بلاد الشام التي كانت جزءاً من ممتلكات الإمبراطورية الرومانية؛ صراعٌ مستمر منذ القرن الثامن الميلادي... صراع متغلغل في الوعي الجمعي الأوروبي والإسلامي. وهذه العداوة العميقة النائمة في لاوعيهم الجمعي أيقظوها اليوم واتّخذت تعبيراً حديثاً: "فوبيا الإسلام" التي يغذّيها الإعلام الصهيوني المتخفّي والحاضر بقوة في وسائل الإعلام الغربية. كل هذا لجلب الغرب إلى مخطّطاته لتدمير المنطقة تحقيقاً لحلمه الديني، لا تنس أن الصهيونية حركة دينية مغطّاة بتمويه علماني.


■ أنت مسكون بالسياسة حتى النخاع، وهذا يُلاحظ في أغلب أحاديثك. كيف تنظر إلى العلاقة الجدلية بين السياسة والثقافة في البلاد العربية؟
- لعله إدغار فور من قال "أنْ تنبت وردة في حديقة بيتك هو حدث سياسي". السياسي هي حياتك اليومية، لأني أرى أن ما يحدث فوق الأرض في عالمنا العربي الإسلامي شيء، والصور الذهنية التي يرسمها الإعلام في وعي المواطنين شيء آخر. يعني أننا نعيش في عالم لا ندركه، بل ندرك عالماً غير موجود. الاستعمار، اليوم، يحاول إعادة هندسة جغرافيتنا ووعينا.

اليوم، لم يعد هناك مجال للحياد. بلداننا ليست في حالة موت سريري، وإنما في حالة موت بطيء. إذْ يراد لها أن تُهدم ليعاد تشكيلها... وإذا لم ينتبه المثقّف إلى هذه الكارثة، فتلك جريمة. عندما يتحدّث الأميركان عن شرق أوسط جديد وشمال أفريقيا جديد، فذلك يعني هدم القديم، والأحسن أن يكون بسواعد أبنائها. أتذكّر عبارة نيتشه: "الهدم لحظة بناء فهم". ولبناء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الجديدين، لا بد من هدم القديم، وهذا ما شرعوا فيه منذ نهاية الاتحاد السوفياتي. لاحِظ تعريفهم لنا جغرافيٌ وليس تاريخياً. لا نُعرَّف من خلال كياننا؛ فهم لا يقولون المشرق العربي أو المغرب العربي لأنهم يعتبرون المنطقة خلاءً، محض جغرافيا بلا كيان قومي.

لقد ابتدعوا فكرة ذهنية المؤامرة، حتى يُبعدوا الناس عن التفكير في مؤامرات الغرب على العرب والمسلمين في هذه الغرف السوداء التي تصلنا شذرات من أخبارها من خلال أدبيات بعض المعارضات الغربية. تلك الأدبيات المغيّبة من الميديا الرسمية، ويجب عليك أن تبحث طويلاً لتكشف بعض المواقع الجادة في الغابة الكونية للشبكة العنكبوتية.


■ لماذا برأيك فشلت دولة الاستقلال؟
في "أكاديمية الفنون والعلوم" بأمستردام- أوّلاً، لأن النخبة لم تقم بالدور المناط بها، بسبب غياب سلطة شرعية تمكّن العربي من حكم نفسه بنفسه. ثمّ، وباختصار شديد، وكما هو الشأن عبر تاريخنا، تنقسم الدولة لدينا إلى أهل السيف وأهل القلم، وأهلُ السيف عندنا هم من أمسكوا السلطة وأخضعوا أهل القلم. وإذا ما ترجمنا كلمة أهل السيف إلى اللغة المعاصرة، قلنا العسكر أو المغامرين من الانقلابيين. هؤلاء، وهم أمّيون غالباً، جعلوا أهل القلم، أي النخب الفكرية والسياسية، تابعةً لهم.

ولأن الحاكم إن كان غير شرعي، فسيظل خائفاً كامل الوقت. ولأنه خائف، فهو يبحث وباستمرار عن أهل الثقة وليس عن أهل الكفاءة، ونادراً ما تجتمع الثقة مع الكفاءة. كيف تريد لدول أن تنهض وطاقاتها الحقيقية مغيّبة؟

قابلتُ كثيراً من الساسة والوزراء والمسؤولين العرب أيام اشتغالي بالصحافة في باريس، ورأيتُ مدى انحطاطهم. وللحقيقة، أستثني بعض القادة الفلسطينيّين الذين عرفتُهم في تونس بحكم عملي الصحافي؛ من أمثال: أبو إياد، وأبو جهاد الذي جمعني به صديقُه الأستاذ هشام شرابي.


■ زرتَ غزّة قبل سنوات قليلة مع وفد "احتفالية فلسطين للأدب"، ماذا تركت فيك فلسطين من انطباعات؟
- غزّة فضيحة التاريخ العربي والضمير العالمي... غزّة معسكر اعتقال وحصار شامل وقتل لمليونَي إنسان طوال 12 سنة. صمتٌ إجرامي في الاعلام الغربي المتشدّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتغطيةٌ على الجريمة. بل إنهم حوّلوا، عن طريق الإعلام، هذا الحصار إلى حالة عادية مقبولة في وعي الناس يتعايشون معها. ولا تنديد في العالم سوى في الميديا البديلة والمواقع المهمّشة.

أيضاً، ما يجري في غزّة حرب نفسية؛ ففي تقديرهم أن الإنسان الذي يتحرّك تحت الأرض ويحصل على قوته من تحت الأرض، لن يلبث مع مرور الزمن أن يتماهى نفسياً مع ما يعيش في الجحور، ممّا يُحطّم معنوياته، لأن الانسان يتماهى مع فعله.

غير أن الإنسان الفلسطيني حوّل الحصار والتجويع وصبَّ الرصاص على رأسه ومحاولات كسر الإرادة إلى قوّة لا حدود لها، تتجلّى في هذا الصمود الأسطوري وابتداع أساليب مقاومة لم يعرفها العالم. والمتضرّر الأول نفسياً هو العدو الذي صار يخشى الإنسان الفلسطيني الصامد أمام كل هذاّ العدوان؛ فإنسان بهذا الصمود يبعث الرعب في عدوّه.


■ لنعُد إلى بداياتك مع الشعر، كيف تصفها؟
- هو أمر تلقائيٌ، كأن يقع الإنسان في الحب، من دون تدخّل العقل الواعي، أو مثل ما يسمّيه إيمانويل كانت الحدثَ المطلَق في حياة الإنسان. الأمر يشبه أن تحلُم، لأنك لا تبرمِج أحلامك مسبقاً. منذ البدء، وجدتُ نفسي مشدوداً إلى عوالم الخيال من دون إدراك منّي. أتذكّر أنني، وأنا طفل في السادسة تقريباً في "المدرسة الصادقية"، كنتُ دائم السرحان، أتطلَّع إلى خط الظلّ منتظِراً أن يصل إلى مكان أشّرته في منتصف الساحة. لحظتَها يكون وقت الخروج من هذا السجن قد أزف. ولم أكن أدري أن الظلال تُغيّر مواقعها حسب الفصول. كنت دائماً مشدوداً إلى مربّعات زجاج نافذة الفصل، وإلى تلك الشجرة الكبيرة التي تتوسّط ساحة المدرسة... لعلّه الهروب. طبعاً أدركتُ هذا فيما بعد.

مبكراً، أحببت الشعر. أذكر أوّلَ قصيدة أحببتها في المدرسة الصادقية. كنتُ في حوالي التاسعة أو العاشرة من عمري، وكانت لشاعر تونسي هو أحمد مختار الوزير، كتبها عن قطّه، وهو في ما أعلم موضوع نادر في الشعر العربي الحديث، باستثناء جورج شحادة، وإن كان شائعاً في الشعر الغربي من شارل بودلير واستيفان مالارمي إلى بول إليوار وبابلو نيرودا. وما أزال أحفظ مطلع القصيدة: "قطيّتي ما أحلاه ظريف حين ألقاه". أتذكّر غلاف الديوان الأخضر وورقه المصفرّ... وأحمد مختار الوزير شاعر رقيق مجهول في المشرق العربي وهو مجايل للشابي ومثله خرّيج الزيتونة. بيد أنه التحق بـ"دار العلوم" في القاهرة... القاهرة التي كانت قبلة المثقّفين التونسيّين منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثلما كانت قبلة الشوام في ذلك العهد.

هناك نشر محمد الخضر ابن الحسين أعماله، وكذلك محمد الطاهر بن عاشور من تحقيقه لديوان بشار بن برد إلى "التحرير والتنوير"، وحسن حسني عبد الوهاب الذي كان صديقاً للأمير فؤاد، قبل أن يجلس على عرش مصر، وكان عضواً في مجمع الملك فؤاد. وقبلهم محمد بيرم الخامس الذي انتقل أواخر القرن التاسع عشر إلى القاهرة، حيث نشر أهمّ مؤلّفاته وأسّس صحيفة "الإعلام"، وهو جدُّ الشاعر محمود بيرم التونسي. ضمن هذا التقليد، نشر الشابي أشعاره في مجلّة "أبولو" ولولا ذلك لما كان أحد لينتبه إلى الشابّي الذي كان مهمّشاً في تونس.


■ كنتَ من روّاد الحداثة الشعرية في المشهد الأدبي التونسي...
- عندما كتبتُ قصائدي الأولى، الفجّة والحزينة، لم أكن أفكّر بالحداثة، ولم أفكّر فيها في ما بعد. بل لم أفكّر أن أكون شاعراً. كانت صيحة انفعال تلقائية. كنتُ أحاول التعبير عن تلك الأشياء التي تحتدم في الداخل من حزن وكآبة وفي الآن نفسه فرح غامر بكل ما يحيط بي وبشكل تلقائي غير واع، مبهوراً بضوء العالم والطبيعة بشكل تلقائي غير مفكَّر فيه.

أتذكّرُ صورةً ظلّت منطبِعةً في وعيي إلى الآن، كنتُ في الثالثة، أو ما حولها، جالساً وراء نافذة صغيرة أتفرّج على المطر الغزير ينهمر في باحة الدار، منبهراً بالقباب المائية الصغيرة الشفّافة مثل الزجاج التي يشكلّها المطر عند سقوطه فوق البلاط، والكناري الأصفر، عصفور عمّي، في قفصه المعلّق في مدخل وسط الدار وصورُ الفرسان التي تبدو لي في الليل وفي ضوء فانوس الزيت وهي تعدو فوق السجّادة المثبّتة على الحائط، والقمر المدوّر الذي يطل من الفتحة الصغيرة فوق باب البيت، والتي نسمّيها "المضوة" و"العولية"… والظلام في الخارج وشجرة الياسمين التي في ركن وسط الدار، والحرباء التي تعيش بين أغصانها وضعَتها جدّتي هناك لتُبطل السحر؛ فقد كان الكبار حولي يعتقدون كامل الوقت أنهم مسحورون... وصفير القطار الذي يأتي من الجزائر وكانت الجزائر شيئاً غامضاً أخضر اللون في مخيّلتي، والنجوم البيضاء التي ترقش السماء المظلمة الزرقاء، وصفّارات البواخر في ميناء تونس كانت تصل حتى الباحة الغارقة في الشمس.

في ما بعد، كان الشعر محاولةً للتخلّص من عذابات المراهقة المختلطة، وما أزال أذكر أنه كان لي كرّاس مدرسي صغير بمربعات زرقاء وخط أحمر رفيع يمين الصفحة أكتب فيه ما أسمّيه قصائد حبّ قصيرة إلى نسيمة كلمات بسيطة رومانسية. أتذكّر أنني جعلت له عنواناً "موسيقى الخريف" وآخر بعنوان "أناشيد الليل" أو شيء من هذا القبيل… لم تكن المسألة مسألة حداثة وإنما هي الرغبة التلقائية في التعبير، الرغبة البدائية التي دفعتني لوضع تلك الكلمات البسيطة، عصارة ألمي، والتي كانت تأتي من الليل أو لا أدري من أين … في الحقيقة لم أهتمّ بالشعر بشكل خاص. كان حلمي الطفولي وأنا في حوالي الثانية عشرة أن أصير مؤرّخاً، وأن أكتب تاريخ العالم منذ البدء... هكذا كنت أحلم به. وفي السابعة عشرة كتبتُ مختصراً لمدينة طبرقة (تقع في شمال تونس على حدود الجزائر) ونشرته في مجلّة "المرأة".

كنتُ طفلاً ويافعاً معطوباً ومختلطاً ومأخوذاً بكل شيء؛ بضوء النهار، برؤية السماء، أسمع صوت مرور القطار ويصلني نقيق الضفادع في ليالي الخريف... منذ البدء، هكذا وجدت نفسي. كنت أسير في الظلام لم أكن أدرك أن العالم هو نبع كلّ شعر وليس قراءة النظريات.

بعدها بسنوات طويلة، نبّهني لوران غسبار إلى أن معايشة الحياة والإحساس بذاك الضوء الأبدي الذي ينبعث في أعماق الإنسان هو النبع البعيد للشعر، النبع الحقيقي للشعر؛ وأن الدربة اللغوية والأفكار مهما كانت عميقة لا تصنع شعراً. كنّا نقف في البستان المجاور لبيته في سيدي بوسعيد نتوادع في الليل ووجيب البحر يصّاعد من الأسفل مالئاً الليل، وكنتُ في قمّة اليأس. قال: لا بد أن تحافظ على الشعلة التي في أعماقك. وما أزال أعتقد أن تلك النظرة الطفولية اللاواعية للعالم هي جوهر الشعر، وهي تلك الشعلة التي عناها لوران غسبار، والتي علينا المحافظة عليها... بعدها بسنوات كتبت قصيدتي:

"سرقوا منّي طفولتي وجنوني
سرقوا رياحي من صناديق ثيابي الخشبية
ومن بوّابات الجنوب
سرقوا نقيق ضفادعي
ومرايا أمّي".


■ ماذا كانت قراءاتك المبكرة؟
خالد النجار مع توفيق الحكيم- كنتُ، في تلك الأيام البعيدة من سن المراهقة، نهماً للقراءة وواقعاً تحت تأثير قراءات كثيرة متباينة. لم تكن الكتب متوفّرةً مثل اليوم؛ فكنت أقرأ ما تقع عليه يدي، وما يتوفّر وليس ما أريد. كانت لي قراءات كثيرة في التاريخ، وكان أول كتاب قرأتُه هو تاريخ ابن أبي الضياف "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" و"الخلاصة النقية في أخبار أفريقية" للباجي المسعودي.

ذهبت أيّامها إلى المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب في بيته في صلامبو أسأله عن مراجع تاريخ طبرقة، فاستقبلني بحنوّ الأب وأحاطني برعايته، وأهداني بعض كتبه وظللت أختلف إليه حتى وفاته. كانت لي أيضاً قراءات في الرواية والتراجم وفي كتب علم النفس المبسّطة. أتذكّر سلسلة كان يُصدرها عبد المنعم الزيادي.

قرأت كل جيل طه حسين وأحمد أمين وسلامة موسى والعقّاد وجبران وميخائيل نعيمة ورجال النهضة الذين اكتشفتُهم من خلال كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" وكتاب أنور الجندي "قمم شامخة"، وهكذا قرأت لشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا وكل سلاسل "الهلال" و"اقرأ" ومطبوعات "دار المكشوف" وترجمات أحمد حسن الزيّات وكتب "دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر". ولكن أحببت توفيق الحكيم وسلامة موسى.


■ ماذا عن قراءاتك الشعرية وقتها؟
- في الشعر، قرأتُ قصائد متفرّقة، لأن القصيدة هي مكان الشعر الحقيقي. كانت قراءاتي أشتاتاً من أزمنة مختلفة. كانت قراءات غريزية إن صح التعبير، وبِنت الصدفة مثل الحياة. من الشعر الجاهلي قصائد للبيد وزهير بن أبي سلمى، وطبعاً طرفة بن العبد وشعراء النحل؛ مثل حمّاد عجرد، ومتفرّقات من أشعار الحصري القيرواني والشعر الأندلسي والموشّحات التونسية، ومحمود صدقي الزهاوي وشعراء المهجر إلى جماعة أبولو: علي محمود طه. أحببت الأخطل الصغير وفؤاد الخشن.

أحببتُ شعر المتصوّفة وخاصةً شعر ابن الفارض "سائق الأظعان يطوي البيد طيّ... "وبعضاً من رباعيات الخيّام، وطبعاً أشعار المتنبّي والمعرّي وأبي نواس وأبي العتاهية المقرّرة في المدرسة. ومن خارج المدرسة، قرأت مالك بن الريب وذا الرمة وتلك الأشعار التي كان يصدرها البستاني في سلسلة روائعه.

طبعاً، أحببت شوقي ونثر محمود المسعدي الذي قرأته بحس الشعر. لم أكن أدري وقتها أن الشعر أوسع من الموازين والأشكال والقوالب، ولكني أُخذت بنص المسعدي المقرّر في المدرسة والمقتطف من "السدّ"، وعندما التقيتُ به قرأتُ عليه مقطعاً من نصّه الذي كنت أحفظه ففرح... واليوم، أعتبر كثيراً ممّا كتبه شعراً فلسفياً وجودياً عميقاً. ولكن الشاعر الذي سيطر على سنوات مراهقتي وأنا أعبر من الخامسة عشرة إلى السادسة عشرة هو إلياس أبو شبكة الذي هو بمثابة بودلير العرب. ما أزال أحفظ عن ظهر قلب قصيدته "سدوم". أو قصيدته التي مطلعها:

"بروحك مغمورة يقظتي/ ونشوى بحبك أحلاميه
وحلمي بحبك لا ينتهي/ وهل تنتهي اليقظة الغافيه".

بعدها، بدأتُ القراءات الواعية؛ إذ، كما تدري، وأنت الشاعر، لكل حقبة قراءاتها... قرأت المجدّدين نازك الملائكة والسياب والبياتي وصلاح عبد الصبور ويوسف الصائغ الذي أحببت قصيدته "وانتظريني عند تخوم البحر" التي صدرت أيامها في كرّاس مربع الشكل برسوم فاضل العزاوي، وأعتقد أن التحديث الحقيقي للقصيدة العربية تمّ في العراق أرض الشعر والدم.

حافظ العراقيون على جرس الكلمة العربية وروح اللغة ومضوا بهما للتجديد مثل النهر هو نفسه وهو في الآن متغيّر، نهر يمتد من سيبويه في البصرة إلى الأب أنستاس الكرملي في دير الكرمل؛ كما هو التجديد في الغرب؛ إذ لم يتنكّر الناس في الغرب للغاتهم وموسيقى لغاتهم. كلُّ شعر بول فاليري وراينر ماريا ريلكه وكلوديل ولوركا يعتمد الأوزان... سان جون بيرس نفسه يعتمد إيقاعات البحر السكندري الذي يقابل تقريباً البحر الطويل لدينا، فهو يتكوّن من اثني عشر إيقاعاً، كما حافظ على صفاء الكلمة الفرنسية. وقد تعاملتُ كثيراً مع شعر سان جون بيرس ووجدت أن قاموسه ينتمي إلى القرن التاسع عشر.

في المقابل كان تجديد مجلّة شعر تجريدياً تعالمياً، وهو ما يصفه لورانس داريل بظاهرة البناء على تجارب الآخرين التي نجدها لدى الشعراء المبتدئين. جماعة "شعر" أساءت للقصيدة العربية وللغة العربية في حين أن اللبنانيين كانوا من أساطين تجديد اللغة في العصر الحديث، أقصد الشدياق واليازجيين والبساتنة والأب لويس شيخو في مجانيه، إلى جبران ونعيمة، إلى كثير من الشعر والنثر الذي تقرؤه اليوم.


■ متى بدأ الانفتاح على شعر العالم؟
- بعد هذه المرحلة، وفي حوالي الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، غرقتُ في قراءة طاغور الذي شُغفتُ به وظللتُ أعيد قراءته باستمرار، كما أحببت لوركا ونزار قباني الشاعر الكبير الذي لحقه ظلم كبير من طرف النقّاد، وخاصة من جماعة مجلّة "شعر" ومن اليسار الذي كان يقيّم الشعر أيديولوجياً. هكذا اهتموا بمظفر النوّاب وهو شاعر عادي جداً، وأهملوا قباني.

والحال أن الشعر العربي لم يعرف في القرن العشرين سوى شاعرَين مسّا الوجدان الشعبي بعمق هما أحمد شوقي ونزار قباني. لعل أبلغ ما قيل في تعريف وتحديد شعر قباني الجملة العميقة التي قالتها سلمى خضراء الجيوسي من أن نزار شاعر كبير ولكن ينقصه الحس التراجيدي بالعالم.

وكانت قراءتي لجبرا إبراهيم جبرا قد فتحت وعيي على والت ويتمان والشعر الرومانسي الإنكليزي ثم إليوت وباوند. وكانت هناك تأثيرات الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر الذي قرأته على اللواتي أحببت، فرلين وبول فاليري. وكتبت أيامها قصيدة مديح للأرض المعيّدة على تخومنا. كانت حقبة تلمس وبحث في الظلام... ثم اكتشفت رامبو وقصيدة فصل في الجحيم، مع هلدرلين، ولكن التحوُّل الحاسم كان باكتشافي لراينر ماريا ريلكه، وأن الشعر الحقيقي هو مرور الروح في الكلام وليس البلاغة الخاوية.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صاحب التوباد
من الصعب التصديق أن خالد النجار (1949) سيدخل عامه السبعين قريباً؛ فلا صخبه ولا شخصيته الفتية ومزاجه الناري وترحلاته الدائمة توحي بذلك. المثقف والمترجم والناشر، والشاعر قبل كل شيء، هو مثال على اجتماع الحس المناقبي النهضوي بنزعة الصعلكة بمعناها العربي القديم.

رغم أنه صاحب دار نشرٍ اختار لها اسم "التوباد"، في استعادةٍ للجبل الشهير في شبه الجزيرة العربية، إلّا أنه أصدر كتباً قليلة لنفسه وعن دور نشر أخرى، من بينها: مجموعته الشعرية "قصائد لأجل الملاك الضائع" (1990)، و"سراج الرعاة" (2014) وهو سلسلةٌ من الحوارات التي أجراها مع كتّاب وشعراء من العالم. وفي أدب الرحلة: "غبار القارات" (2009)، الذي نقل فيه مشاهداته خلال أسفارٍ إلى أميركا وكندا ومصر والجزائر ولبنان وإيطاليا واليونان.

نقل النجّار أعمالاً لشعراء عرب يكتبون بالفرنسية إلى لغتهم الأم؛ مثل جورج شحادة: "السابح بحب وحيد" (2006)، وإتيل عدنان: "هذه السماء غائبة" (2008)، و"يوم27 تشرين الأول 2003"، و"يوم في نيويورك" و"الجمعة 25 آذار في الرابعة بعد الظهر".

كما أصدرت داره ترجماتٍ لعدد من الشعراء والكتّاب الأجانب إلى اللغة العربية؛ ضمن سلسلتَي: "القصيدة" و"المتون"؛ ومن أبرزهم: هنري ميشو، وبرنار نويل، وسان جون بيرس، وجون ماري لوكليزو، وآلان نادو، وإيف مزيار، وهنري ميلر.

المساهمون