Succession... أصنام الشركة في صراع مع الاصطفاء الطبيعي

12 يناير 2022
ينتزع الأب/الديناصور من ابنه كيندال حق الخلافة (HBO)
+ الخط -

يصور مسلسل Succession، الذي انتهى عرض موسمه الثالث أخيراً، قصة "نجاح" حدثت في وقت سابق، أبطالها عائلة روي، وعلى رأسهم المدير التنفيذي لشركة "وايستار رويكو"، الوالد، والسلطة البطريركية؛ لوغان روي (براين كوكس).

ما يميز هذه القصة عن غيرها من قصص الثراء المتلفزة، هو أنها حقيقية إلى أبعد الحدود، فلا الاستيقاظ باكرًا، ولا وضع قائمة بأهداف عشرة، ولا حتى العمل الجاد، سيفي أي منها بالغرض. غريزة القاتل وحدها، كما توصف على لسان شخصيات مسلسل Succession، هي كل ما يتطلبه الأمر، لكن "ربما.. ليس في هذا الزمن"، عبارة وردت على لسان لوغان المشكك دومًا في قدرة ابنه كيندال (جيريمي سترونغ) على خلافته، نظرًا لافتقاده غريزة القاتل تلك.

يرصد المسلسل فترة انتقالية، إذاً، في حياة الشركات التجارية في الولايات المتحدة، لتغدو الخلافة بمفهومها الأوسع موضوعًا أساسيًا في بحث صناع المسلسل؛ إذ يلقي العمل نظرة فاحصة على الإرث المادي والرمزي، كالذي تمتلكه عائلة روي، بوصفه امتدادًا طبيعيًا للثروات المحصلة في ثمانينيات الولايات المتحدة، خاصة خلال عهد رونالد ريغان، وكيفية تفاعله مع عالم اليوم، بكل ما فيه من منعطفات حادة طرأت على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد، وعلى مفهوم وشكل الثروة والرفاه أيضًا.

فمنذ الموسم الأول للمسلسل، تخوض أصنام شركة "وايستار" صراعًا مع فكرة اصطفائها الطبيعي بفعل نمو شركات التيك وانخفاض قيم أسهمها. ينتقل الصراع بعدها ليتركز بين الابن والأب، ويتضاعف مرة ثالثة على إثر فضيحة الرحلات البحرية وادعاءات التحرش الجنسي التي نفذها رؤساء ومدراء في "وايستار" بحق موظفيهم خلال فترة "لم تجرِ فيها الأمور كما باتت تجري الآن". يشير لوغان عبر تلك الجملة المفتاحية في فهم المسلسل إلى تغير المنظومة الاقتصادية عن تلك التي عهدها منذ الثمانينيات، ففي حين لعب الاقتصاد سابقًا دور المؤثر الأكبر على الواقع الاجتماعي، بات اليوم يتأثر به أيضًا، وظهرت علوم حديثة، كالاجتماع السياسي والاقتصاد الاجتماعي، مهمتها دراسة ذلك الأثر المتبادل بين فروع السياسة والاقتصاد والمجتمع.

 

من هذه الزاوية فقط، نرى أن معظم أزمات شركة "وايستار" تبدو وكأنها نابعة عن عجز أيديولوجي يمنعها من مجاراة عصرها. صحيح أن بعض الأمور لا يمكن أن تتم إلا على طريقة "الديناصور" البالية، (بكلمات ابنة لوغان، شيفون، الثائرة على نهجهه المتآكل)، إلا أن تلك الانتصارات الصغيرة لا تنفي حقيقة أن إدارة لوغان الأثرية، وكل ما تستند إليه من مرجعيات سياسية وفكرية، أوشكت أن تنتهي صلاحيتها، باتت مهددة بالزوال ما لم تتكيف مع معطيات اليوم، أمر يفلح لوغان في فهمه آخر الموسم الثالث؛ إذ يبيع شركته، في حركة مغايرة لكل ما يتوقعه جمهور المسلسل من رجل يرفض دعم مرشح رئاسي لتردده في إحضار الكوكاكولا بعد منتصف الليل، متخليًا عن شركته بما هي قيمة معنوية ثابتة، وأخرى مادية مستمرة في الهبوط، مستسلمًا لـ ماتسن، الشاب اليافع مبتكر تكنولوجيا "غوجو". إلا أن لوغان يدرك جيدًا أن هزيمته المفترضة عبر بيع الشركة، ليست في واقع الأمر إلا نصرًا مقنعًا يكسبه هو وشركته ميزات أكبر على المدى البعيد. نهاية سوداوية تثبت أن رأس المال يربح في كل مرة، فالعجوز المتعند، الأب الصعب، والمدير المتعجرف، الذي نشهد طوال المسلسل على سلوكياته المتغطرسة، يؤكد في آخر الأمر أن ولاءه الأول ليس لمظاهر القوة والصلابة التي يفيض بها على طول المواسم الثلاثة، ولا حتى لاسم العائلة أو لأبنائه، بل لمشروعه الربحي المهدد بالانقراض. 

أمر آخر يركز عليه بحث المسلسل، ألا وهو انعكاس علاقات الإنتاج على العلاقات الاجتماعية والأسرية، وربما اعتباره سببًا أساسيًا في تفكك أسرة روي؛ لا ذكريات لأطفال روي مع والدهم، لا عشاءات تخلو من أحاديث العمل، لا خدمات تُقدم بلا أثمان، لا مناصب مجانية، أما العاطفة الإنسانية فهي ثانوية جدًا أمام مصالح العمل.

ولا ينحسر أثر تلك الاخلاقيات على سوء العلاقة بين أفراد الأسرة ومحيطها فحسب، بل يمتد ليشمل بيئة العمل المدارة من قبل ذات الأشخاص المضطربين، ما يجعلنا نتساءل طوال المسلسل عن مدى فاعلية مفهوم "الشركة المدارة عائليًا" family business، حيث تجتمع العائلة والمصلحة ويتفاعلان في فضاء واحد. الخيانات الداخلية، انعدام الثقة، والانتكاسات المتكررة داخل مجلس الإدارة، التي يحتمل مسؤوليتها عامة الناس في معظم الأحيان، تؤكد أن نظام الإدارة الأسري ليس تمامًا كما يبدو، وأن آل روي لا يصنعون نظام الشركة الوحشي فحسب، بل يعيد هو الآخر صنعهم أيضًا وفق سلسلة غير منتهية من الأثر المتبادل.

معظم أزمات شركة "وايستار" تبدو وكأنها نابعة عن عجز أيديولوجي يمنعها من مجاراة عصرها

لا ينفصل فضاء العمل عن ذلك الحميمي.. أمر يشير إليه صناع المسلسل عبر خيارات إخراجية وتمثيلية متقنة، فحتى داخل جدران منزل آل روي، لا نرى عائلة، بل مجلس إدارة يقيم في كل مكان يتوجه إليه غرفة اجتماع، وإذا ما دققنا النظر، نلحظ أننا قلة ما نرى أياً من شخوص المنزل ترتدي ملابس منزلية، باستثناء تلك المرة التي يدخل فيها كيندال حمام والده ليضعه في موقف هش مسلمًا إياه ورقة الاستحواذ على الشركة، وكأن كيندال تمكن من والده فقط عندما ظهر بهيئة "الآدمي"، الأب المجرد من كل أسلحته.

لا ينبذ لوغان عن نفسه صفة الأب فقط، بل يشجع أبناءه بشتى الطرق الواعية وغير الواعية على الانفلات من موقعهم كأبناء له، وأخوة لبعضهم بعضاً. أمر يبرز بوضوح مع المشهد الأول من الموسم الأول، حين يتنزع لوغان من ابنه حق الخلافة لمجرد حضوره حفل عيد ميلاد والده. الابن الجيد، "الرقم واحد"، كما يصفه لوغان، هو فقط من بوسعه إدارة الشركة بواسطة "غريزة القاتل" نفسها، ما يفسر ابتسامته حال سماعه خبر خيانة كيندال له نهاية الموسم الثاني.

الموضوعة ذاتها تظهر بشكل صارخ عبر علاقة توم (ماثيو ماكفادين) بشيفون (ساره سنوك)، بدءًا من زواجها الصوري به، إلى استخدامها له متى ما دعت الحاجة، وصولًا إلى انحيازه إلى جانب والدها تعبيرًا عن استيائه من علاقتهما العاطفية. أمر لم يكن توم نفسه ليفعله مع الموسم الأول، إلا أن تعاليم آل روي بدأت تأتي بمفعولها مع مرور الوقت. أما غريغ (نيكولاس براون)، أحد أقرباء عائلة روي، فأر التجارب الخاص بتوم، والمثال الحي على الإنسان الوصولي، فلم يكن له أي وجود فعلي ضمن عائلة روي، إلا عند ظهوره كممثل عن جده حامل الأسهم.

لا يختلف أبناء لوغان عنه عندما تتعرض مصالحهم الشخصية للخطر

لا تسقط التفاحة بعيدًا عن الشجرة، كذلك لا يختلف أبناء لوغان عنه عندما تتعرض مصالحهم الشخصية للخطر؛ فناهيك عن معرفتهم الصامتة بأفعال التحرش الجنسي ضمن الشركة، يتصرف الأبناء بشكل مخيب للآمال في كل مرة تسنح لهم الفرصة للتمرد؛ شيف تتخلى عن عملها السياسي حالما يتاح لها وضع يديها على الشركة، وتقنع فتاة بالعزوف عن الشهادة في دعوى التحرش الجنسي المقامة ضد الشركة، ثم تناقش مع زوجها توم خوض علاقة جنسية ثلاثية مع إحدى العاملات على يخت تمتلكه العائلة، متجاهلة أن أخطاء كهذه هي التي أوقعت الشركة في مأزقها الأخلاقي الحالي. أما رومان (كيران كولكين)، فيدعم مرشحًا رئاسيًا فاشيًا، ويشي باحتمالية تنظيم نقابة في إحدى الشركات، وكيندال النصير الوفي للثقافات البديلة ليس في حقيقة الأمر إلا باحثًا عن سوق جديد ينافس عبره سوق والده المترهل.

وبعيدًا عما يحمله المسلسل من حوارات مذهلة ولغة مدروسة بعناية، يجتهد صناع "سكسشين" في تصميم جمالياته وفقًا لما يتناسب مع أفكارهم عن النص أيضًا، فالديكور المتقشف، المكياج غير الملحوظ، الأزياء الهادئة والخالية من أي بهرجات لونية، تقدم تأويلًا بصريًا مهمًا لمفهوم الثراء المعاصر، وكأن البساطة التامة وانعدام التكلف في التزيين هو صيحة جديدة في عالم الرفاه، و"مسألة ذوق" لا يفهمها إلا الأثرياء.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في ذات السياق، تلعب الكاميرا في "سكسشين" دورًا مهمًا، يصل إلى حد اعتبارها شخصية إضافية تتحرك ضمن فضاء الشخصيات الأساسية، تخبرنا ما ينبغي أن نعرفه، وبما هو خفي في بعض الأحيان؛ إذ يستخدم آدم مكاي، وهو منتج The Big Short وVice، أسلوب السينما الوثائقية في السينماتوغرافي الخاصة بالمسلسل، فيستعين بالكاميرا المحمولة ليتنقل بين الشخصيات بميكانيكية أقل، هدفها محاكاة حركة إنسان فعلي لا يعرف من قد يتحدث لاحقًا، ويكثر من استخدام تقنية الـ close up، ليعطي الانطباع بوجود شخص مراقب للحدث، فتقترب الكاميرا من وجه شخصية ما لترصد ما تتوقعه منها من رد فعل، وأحيانًا كثيرة تُخذل، فلا تلقى إلا تحديقة صامتة أو التفاتة في الوجه. إن تلك المعرفة الجزئية للمصور بالأحداث هي بالضبط ما يجعل حديثًا بين ثلاثة أو أربعة أشخاص أمرًا جديرا بالرؤية والمتابعة.

سيتواصل Succession في موسم رابع، رافعًا سقف التوقعات عما قد يقدمه لاحقًا، ومعه احتمالية وقوعه في فخ التجارية، خاصة بعد الإقبال الكبير الذي شهده المسلسل في حلقاته الأخيرة. إلا أن المسلسل الجديد ما زال، حتى اليوم، يثبت أن صنعة المسلسلات التلفزيونية باتت أمرًا يناهز في جمالياته وجديته فن الشاشة الكبيرة.

المساهمون