يوروفيجن... نيمو في مملكة تقع ما بين الصفر والواحد

يوروفيجن... نيمو في مملكة تقع ما بين الصفر والواحد

19 مايو 2024
المغني السويسري في حفل يوروفيجن الأخير (مارتن سيلفيست أندرسن / Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- نظام التصويت في مسابقة يوروفيجن يجمع بين أصوات لجان الخبراء وتصويت الجمهور، ما يضيف غموضًا ويعكس التعقيد الديمقراطي في الاتحاد الأوروبي.
- فوز "The Code" لنيمو يعكس تقاطع اهتمامات المؤسسة الفنية والجمهور، مركزًا على قضايا مثل التحرر الجندري والرسائل الاجتماعية.
- الأسلوب الفني لأغنية نيمو يدمج التقاليد الغنائية السويسرية بعناصر حديثة، معبرًا عن التحرر من القيود الاجتماعية والجندرية بتقنيات موسيقية متنوعة.

مشهود لنظام التصويت المتبع في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) بالغموض والتعقيد، إذ يعتمد محصّلات من أصواتِ لجان خبراء، تُمثّل المؤسسة الفنية والإعلامية، وأصوات العموم من المتابعين التي باتت تُجمع اليوم عبر الإنترنت. كأنه يعكس مجازياً تركيبة النظم الديمقراطية لدول الاتحاد الأوروبي ذاتها، إذ لا يمكن التكهّن بمدى النفوذ الذي تحظى به المؤسسات مقابل المساحة المتاحة لمن يوصفون "ديموس"، وذلك بحسب الجذر الإغريقي لمصطلح الديمقراطية الدال على الشعب.

من هنا، لا يمكن التكهّن بما الذي، أو من، أدى بأغنية المغني السويسري نيمو لأن تفوز بالمرتبة الأولى لدورة هذا العام، التي استضافتها المدينة السويدية مالمو. أهي إرادة مؤسسة الصناعة الفنية والإعلامية ممثلة بلجان الخبراء؟ أم هي ذائقة الأكثرية من الجمهور المحصولة عبر الإنترنت؟ كل ذلك، وسط تقارير عن مفارقات ومشادّات كثيرة عكّرت صفو دورة هذا العام، نقلت أخبارها معظم وكالات الأنباء وتناقلتها بإسهاب مواقع التواصل الاجتماعي.

إلا أنه، وبعد أخذ الجودة والجاذبية البادية بالحسبان، يمكن النظر إلى أغنية السويسري نيمو الفائزة والمعنونة بـ The Code، على أنها تعبيرٌ عن تلاقي ميلٍ متزايد لدى شخوص المؤسسة الفنية المتأثرين بآراء الحافة التقدميّة من سجال الهوياتية السياسية، وميلٍ شبيهٍ عند شريحة ما انفكت تتّسع بين شباب الطبقة الوسطى المعولمة. يتجه كلا الميلين نحو الأغنية التي تحمل رسالة سياسية اجتماعية، أو تكون "هادفة"، كما كانت تُعرف وفق أدبيات اليسار العربي في القرن الماضي.

بالنسبة إلى الغرب تقدميّ الهوى، يشكّل مضمون الرسالة التي حملتها أغنية نيمو المتعلق بقضية التحرر من الثنائية الجندرية، حمولة سياسية من العيار الأخف، يمكن لها أن تُصيب ثلاثة أهداف برمية واحدة؛ فأولاً، هي تنسجم مع الخطاب التقدمي المتنامي داخل المؤسسة الفنية، وثانياً، تُرضي النزعة النشاطويّة المتزايدة لدى الجيل الجديد من التقدميين إزاء قضايا التحرر ومن بينها الجندر، أما ثالثاً، تنأى بالمسابقة، عن قضايا سياسية أكثر إلحاحاً، على رأسها المأساة الإنسانية التي يمر بها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وحجم الاستقطاب غير المسبوق داخل الدول الغربية الناجم عن ردّ الفعل على تواصل القصف والتوغّل الإسرائيلي المستمر في القطاع، الذي تزامن مع جدول بث الحدث الموسيقي الأكبر في العالم.

منذ البداية، يُرسي نيمو الثيمة الرئيسة لأغنيته المؤلفة من أربع صيحات خافتة "وهو، هو، هو" خارجة من حنجرته، باستخدامه تقنية الصفير (فلاجوليت)، وذلك بتطويع عصريّ للون الغناء التقليدي لمناطق الريف السويسري المحاذي لجبال الألب.

يسلك لحن المقطع الأول خطاً لحنياً يتشكل من نغمات ملتصقة ببعضها بعضاً عبر فواصل كروماتية، توحي بأجواء الإثارة في أفلام الفانتازيا السحرية، مثل سلسلة "هاري بوتر"، فيما تحمل الكلمات مجازاتٍ شائعة في خطاب التحرر الجندري ما بعد الحداثي، إذ يقول نيمو : "تفضّل إلى العرض، دع الجميع يعلم، قد انتهيت من لعب اللعبة، سأفلت من القيد"، في إشارة إلى الانعتاق من طوق العرف الاجتماعي القائم على ثنائية المرأة والرجل.

حول العالم
التحديثات الحية

قُبيل دخول القنطرة، يتصعّد مستوى الإثارة، عن طريق إطلاق ائتلافات هارمونية عاصفة (أكوردات) يعقب كل رشقة منها صمتٌ خانق يتخلله صوت لهاث، يوحي بانحباس الأنفاس وتسرع ضربات القلب قبيل الإقدام على خطوة محفوفة بالخطر، في ما يبدو ربطاً دراميّاً بفعل التحرر والانعتاق.

يصل التصعيد الذروة، مصاحباً باستعادة الثيمة التمثيلية لفولكلور الريف السويسري، عند جملة "القصة هي حقيقتي" في استعارات أخرى من خطاب التحرر الجندي الدائر بمدار التفكيك وتهافت السرديات الكبرة، إذ ليس ثمة حقيقة عالمية شاملة كبرى، وإنما حقائق فردية ذاتية صغرى. لتكون "حقيقتي"، هي القصة المركزية والمفصلية.

في مفارقة لحال الإثارة والترقّب، ومقاربة أكثر شاعرية حسيّة، تُستدعى إليها أصوات الآلات الكلاسيكية كالبيانو ومجاميع الوتريات، يُعلن نيمو من خلال القنطرة أنه قد تمكّن من كسر "الشفرة"، وإن أمكن تأوّل كلمة (Code) في سياق الكلمات، بمعناها المرادف في سياق اللغة الإنكليزية والدال على العرف الاجتماعي.

ينبئ السرد بأن عملية الكسر تلك لم تكن لتتحقق، سوى بعد أوديسا، أي رحلة ملحمية على طراز الميثولوجيا الإغريقيّة، كانت قد أخذته إلى الجحيم ثم أعادته إلى ذاته، ليجدها وقد حطّت "على المسار"، ظافرةً بعثورها "على النعيم"، إذ غالباً ما يُشار إلى عملية الخروج على الثنائية الجندرية، بوصفها مخاضاً وجودياً، يقود صاحبها إلى معرفة الذات، وبالتالي تحقيقها، أو الذهاب إلى حد بلوغ ما يشبه استنارةً تُفضي إلى كشف الحجاب عن حقيقة العالم، الذي ما هو إلا سجن أيديولوجي، فيه يُروّض الإنسان ويُدجّن، وفق يقينيات مُسبّقة مُعلّبة، في استلاب عصري بنكهة البوب لقصص القادة الروحيين.

يمثل المقطع التالي الذي يبدأ بغناء نيمو الراب، تجليّاً موسيقياً لمظهرٍ آخر من مظاهر خطاب اللاثنائية الجندرية ذي الخلفية النظرية التقدمية، والذي أصبح سائداً بين شباب اليوم، ألا وهو ما بات يُعرف بمصطلح البين - تقاطعية (Intersectionality).

ليس المصطلح إلا تحوّراً جديداً على سلسلة التحوّرات الناتجة من المفاهيم البينيّة العديدة لفكر ما بعد الحداثة، كالبين - مناهجية والبين - وسائطية، والتي ينبغي بموجبها على كل مُخرجٍ فني أو ثقافي أن يدمج ضمن إطاره الشكلي ألواناً أسلوبية مختلفة، وألاّ يتموضع على جهة واحدة من الطيف الموسيقي.

يكتسب الراب هنا أهمية بين - تقاطعية خاصة، إذ يمثل من خلال غنائيّته الخطابيّة منزوعة النغم، إرث الهوية الأفروأميركية السوداء الرازحة تحت نير ما بات يُشير التقدميون الجدد إليه بمسمى "العنصرية المُمنهجة"، التي ما انفكت تُمارسها مؤسسات الدولة والمجتمع في الولايات المتحدة الأميركية. وعليه، فإن إدماجه بأي أغنية تحمل رسالة عابرة للجندر، من شأنه أن يخلق تقاطعاً ما بينها وبين قضية تحرر أخرى، توكيداً على سمة النشاطوية السياسية فيها.

تماشياً مع المَلَكة السردية، نظراً إلى خلوّه من النغم وسرعة إيقاعه، ما يزيد الإمكانية لكي تُضغط كلمات الأغنية وتُكثّف، يستخدم نيمو الراب لأجل رواية "قصة عن حياته"، وإن بعمومية مغالية بالرمزية. يمكن تأوّل القصة على أنها عبورٌ لمنظومة الثنائيات خارج واحدة من أكثرها تجذّراً في الوعي البشري، ألا وهي الخير والشر. عبر تساؤله: "من يقرر ما الصواب؟ من يقرر ما الخطأ؟"، إنما يُشير بذلك إلى نسبية المعايير الأخلاقية، وعدم صلاحية حقيقة موضوعية شاملة وجامعة، "كل شيء هو توازن" و"كل شيء خفيف" حيث تُستعمل هنا التورية من خلال لفظ (Light)، الذي يعني أيضاً، ضوء.

حرصاً على المواءمة بين الشكل والمضمون، تتّبع الأغنية بدورها تصميماً لاخطيّاً يجعلها من الناحية الشكلية تحاكي خطاب السيولة الجندرية، إذ عقب مقطع الراب، وعوضاً عن مقطع يتّسق مع ما سبق، تخمد الموسيقى فجأة لتغور في حالة من الكمون السالب، يتوقف خلالها الإيقاع الصاخب. ليُكتفى بنقر منخفضٍ مَهيبٍ على آلة البيانو يتشتت أصداءً في الفضاء مشرفاً على قاع نغمي سحيق. في تلك الأجواء المتلبدة بظُلمة غيبية، يستعيد نيمو سردية الاستنارة من جديد، ليضعها هذه المرة في إطار دلالي يجمع اللغة الدينية بالرقمية.

يقول إنه قد "وجد مملكته" في إشارة إلى مملكة السماء بحسب التعبير الإنجيلي المرتبط بالبعث والحضرة الإلهية، إلا أن تلك المملكة تقع "ما بين الصفر والواحد"، أي الثنائية التي تقوم عليها نظم الكومبيوتر. كأن نيمو بخروجه على الثنائية الجندرية، وتحطيمه الشفرة، أو العرف السائد، إنما يتجاوز بذلك مجال الحقيقة الثابتة والموضوعية بثنائيّاتها التي لا تنتهي، ولا تعدو أن تكون محاكاة افتراضيّة مُنشأة بواسطة الكومبيوتر؛ أي كأنه ها هنا نسخة موسيقية من نيو، بطل سلسة أفلام "ماتركس" (Matrix) الهوليودية الشهيرة التي أثّرت عميقاً منذ صدورها سنة 1999 في شعبنة خطاب ما بعد الحداثة بين أجيال الألفيّة الثالثة وما بعدها. 

المساهمون