ميريام ماكيبا... صوت أفريقيا على مسارح العالم

19 نوفمبر 2021
نُفيت من بلدها عام 1959 ولم تعد حتى عام 1994 (Getty)
+ الخط -

انزعجت المغنية الشابة بشدّة، حينما أبلغها مسؤولو سفارتها، أنه ليس مرحّباً بعودتها إلى جنوب أفريقيا. ورغم أنها عاشت مواطنة درجة ثانية في بلدها، فإن فراقها لأمها وأهلها كان شاقا على نفسها. إلا أن قسوة البُعد، كانت ضرورية لمزيد من القرب، حتى تمسي "ماما أفريقيا" وأسطورتها الغنائية.
يوم الرابع من مارس/آذار من عام 1932، في جوهانسبورغ، وُلدت ميريام ماكيبا. وسرعان ما، حتى زُج بها في السجن ستة أشهر مع والدتها الساحرة الطبيبة. خرجت بعدها تحمل اسم "زينزيل ماكيبا"، الذي لم يعدها إلا بمزيد من المعاناة؛ فمعناه في لغة الزولو "لا تلومن غير نفسك". وبالفعل، قضت طفولة قاسية بسبب هجران الأب وعمل الأم، واضطرت الصغيرة هي الأخرى إلى العمل.
لم يخفف القدر من قبضته على زينزيل؛ فأجبرت على الزواج في سن مبكرة، لتنجب طفلة من زوج كان يسيء معاملتها، ثم هجرها، وسرعان ما أصيبت بالسرطان. لكن، بدلاً من أن تلهيها المأساة عن مسار خطه القدر لها، تسارعت خطواتها إليه؛ فاحترفت الغناء حتى ترعى ابنتها. أثناء ذلك، تغلبت على مرضها بشجاعة. ومن عضو كورال في عدد من الفرق الموسيقية، إلى مغنية رئيسية في إحداها، أمست اسماً معروفاً.
تكفلت شهرة ميريام بإرسالها في جولة موسيقية خارج البلاد (1959). وخلال وجودها في إيطاليا، شاركت في فيلم وثائقي مناهض لسياسة الفصل العنصري، ليثير الفيلم غضب مسؤولي بلدها، ويتم تبليغها أنه لا داعي لمحاولة العودة إلى جنوب أفريقيا.
حرّض نفي المغنية الشابة على التعاطف معها. كان في واقع الأمر هدية الحكومة العنصرية لماكيبا، إذ اشتعلت النيران في مسيرتها؛ فتعددت حفلاتها وتنقلت ميريام (أمسى اسماً فنياً للمطربة الأفريقية) بين نيويورك والبندقية ولندن. هناك، تعرفت إلى المغني الأميركي، هاري بيلافونتي، الذي رعاها فنياً، لتستقر في نيويورك مطلقة أول ألبوم منفرد لها في عام 1960.
بمزيج من موسيقى الجاز والبوب، والألحان الأفريقية التقليدية، لفتت مريم مسامع العالم، وتوالت ألبوماتها؛ أشهرها كان "باتا باتا" (1967). قبلها، حصلت على جائزة غرامي كأول أفريقية تفوز بها، عن ألبومها "في الليل" (1965).
انتقل الأفروبوب والجاز الأفريقي عبر صوتها إلى العالم، وامتزج البلوز مع الجاز في كلمات أغانيها، لتحقق ماكيبا جماهيرية كبيرة في الولايات المتحدة. لكن لم تلبث أن تراجعت شعبيتها بين أبناء البيض، بسبب نشاطها في حركة الحقوق المدنية، ثم زواجها من زعيم حركة الفهود السود، ستوكلي كارمايكل.


فجأة، ومن دون أي مقدمات، ألغيت حفلاتها الموسيقية، سُحبت تسجيلاتها من على رفوف المحلات، وضعت تحت المراقبة، طاردها مكتب التحقيقات الفيدرالية، مثلما طارد زوجها، فكان قرار الرحيل والعودة إلى أفريقيا، لكن ليس إلى الجنوب، حيث وطنها الممنوعة من دخوله، بل إلى الغرب، غينيا تحديداً التي منحتها الجنسية. ومن البلد الأفريقي، انطلقت لتحيي العديد من احتفالات الاستقلال في بلدان القارة. وكان أن دعاها الرئيس الجزائري هواري بومدين للغناء في احتفالات بلده بذكرى الاستقلال (1972)، لتغنى للمرة الأولى بالعربية: "أنا حرة في الجزائر... انتهى زمن العبيد"، ليمنحها بومدين الجنسية العربية.
خلال السبعينيات والثمانينيات، كثفت نشاطها الفني؛ إذ شاركت في كثير من مهرجانات الجاز حول العالم، كما منحت "ماما أفريقيا" ـ مثلما أطلق عليها أبناء القارة ـ مساحة أوسع في أغانيها لقضية الفصل العنصري، منها أغنيتها الشهيرة "سويتو بلوز" (1977).
غزلت المطربة الأفريقية من الكلمات والموسيقى سياجاً يحمي قضية المضطهدين، أبناء بلدها، من النسيان. غنت للحب، للسلام، للعدالة والمساواة؛ لهذا سارعت بلدان ومنظمات دولية معنية بتلك القيم الإنسانية إلى تكريمها، فمنحها الاتحاد الأفريقي أرفع أوسمته في عام 1963، بعدما وقع عليها الاختيار لتدشين منظمة الوحدة الأفريقية بصوتها. كما قلدها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وسام الشرف من رتبة فارس، واعتمدتها الأمم المتحدة سفيرة للنوايا الحسنة في عام 1999.


أما بلدها؛ فقد دعاها إلى زيارته بطلب من نيلسون مانديلا بعد تحرّره، ليخبرها عند اللقاء أن صوتها وهب الجماهير والمناضلين دوماً شعوراً عميقاً بالأمل. عادت الأم إلى أبنائها، لتسكن بينهم في الضاحية الشمالية لجوهانسبورغ (1992)، ليحيوها كلما تنقلت بين أحياء المدينة: "كيف حالك أيتها الأم؟".
استقرت ماكيبا في جنوب أفريقيا منذ عام 1992. لم تمنعها عودتها إلى بلادها من جولاتها، لتغني في أهم مسارح العالم. حرصت فيهاً مريم دوماً على إبراز أفريقيتها، فالتمعت في موسيقاها، في كلمات أغانيها، في أغطية رأسها، سلاسل الخرز، قفطانها الأفريقي.. هكذا، ماكيبا أمست صوت أفريقيا وصورتها.
أما المرة الأخيرة التي غنت فيها ماما أفريقيا، فكانت على مسرح كاستيل في إيطاليا. أقيم الحفل استنكاراً لمقتل ستة مهاجرين أفارقة على يد المافيا، وتضامناً مع المخرج الإيطالي ماثيو كاروني، الذي هددته المافيا بالقتل، بسبب فيلم فاز بجائزة "كان"، وتناول تاريخ المنظمة الإجرامية.

سينما ودراما
التحديثات الحية

كانت الحفلة جزءاً من برنامج رحلة أخيرة رغبت ماكيبا، البالغة من العمر 76 عاماً، أن تقوم بها لتودّع العالم وتشكره على ما قدمه لها. وبعدما انتهت من الغناء، حياها الحضور بحماسة وشغف، ليسدل الستار.. لكن هذا لم يوقف هتاف الجمهور الذي رغب في عودتها مرة أخرى. غير أن ماكيبا، في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 2008، كانت قد رحلت بعيداً، بلا عودة.

المساهمون