موسيقى دراما رمضان... حلبة تنافس أُخرى

موسيقى دراما رمضان... حلبة تنافس أُخرى

14 ابريل 2024
تدخل بعض الإيقاعات الشرقية ممزوجةً بعناصر موسيقية تركية أو فلامنكو (فريد قطب/ الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- شهر رمضان يتحول إلى مهرجان للدراما العربية، حيث تتنافس الإنتاجات الضخمة للفوز بأفضل أوقات البث، مستغلة الأجواء العائلية والاحتفالية.
- الموسيقى تلعب دورًا محوريًا في الإنتاجات الرمضانية، مع تطور التكنولوجيا وزيادة الميزانيات، مما يسمح بإنتاج موسيقى ذات جودة عالية ترافق الأعمال الدرامية.
- استخدام أنماط موسيقية متنوعة في الأعمال الدرامية يعزز من تجربة المشاهدة، سواء عبر تأليف موسيقى تصويرية مبدعة أو دمج أنماط مثل التانغو مع لمسات شرقية.

منذ بدء عصر التلفزيون في الشرق، حافظ شهر رمضان على استضافته عروض المسلسلات الدرامية، إذ أصبح أشبه بمهرجانٍ للدراما العربية، تتنافس خلال أسابيعه الأربعة أقوى الإنتاجات وأكبرها كلفة على الفوز بأغلى مواعيد البث، فتضمن لها أعلى نسب متابعة قبيل الإفطار وبعده، وفي فترة السهرة، حين يتحلّق أفراد الأسرة حول الشاشة، تفصلهم عنها طاولة مفروشة بأطايب النقارش الحلوة والمالحة.

حتى البناء الدرامي للأعمال التلفزيونية العربية، ومطّه على مدى قرابة الثلاثين حلقة، على الرغم من خرق موسم هذا العام تلك العادة في عدة أعمال، ما كان إلا تماشياً مع أيام رمضان، الشهر الذي يظلّ مناسبةً جماهيرية في عموم المنطقة الناطقة بالعربية، إذ يجمع دائماً، ولا يزال، المظاهر الاحتفالية الدينية والدنيوية، وتنشط فيه الممارسات الروحية والاستهلاكية.

وكأي مهرجان للدراما، يجدر عند الإضاءة النقديّة على الإنتاج التلفزيوني الوقوف أيضاً على موسيقى المسلسلات، سواء كانت المادة الموسيقية المصاحبة للمشاهد أو أغنية الشارة، إذ تُعدّ الأخيرة بمثابة تقليد عربي، لما للغناء والأغنية من شأن في الثقافة السمعية.

ومع نمو ميزانيات الدراما العربية، وتقدّم وسائل إنتاجها، مقابل تطور التكنولوجيا وسهولة انخفاض كِلف حيازتها، بات من الممكن رفد المُنتج الدرامي بنظير صوتي موسيقي يتمتع بسويّة عالية، أقلّه شكلانيّاً، أي لجهة نوعية الإنتاج وجودة التقنيّات المتّبعة في تصميم الصوت وهندسته، وليس بالضرورة أن يترافق علوّ السويّة بالكمون التعبيري أو الجوهر الفكري.

وفي واقع الأمر، ليس المراد للموسيقى التصويرية ولا المرجو منها أن تتضمن كموناً تعبيرياً أو جوهراً فكريّاً، اللهم إلا إذا طغى إبداع مؤلفها في ما قلّ وندر، وزاد عن طبيعة الوظيفة المحددة لها، ألا وهي مصاحبة المشاهد والدخول على سيرورة الإنتاج كرافد من روافد صناعة الدراما التلفزيونية وليس بالضرورة كعمل فنَي مكتملٍ مستقلٍ بذاته.
   
لأجل المسلسل المصري "الحشاشين" الذي عُرض في رمضان الفائت على 30 حلقة (كتابة عبد الرحيم كمال، وإخراج بيتر ميمي، وبطولة كريم عبد العزيز) كتب الموسيقى التصويرية المؤلف والموزع التونسي أمين بوحافة، الذي تميّز بنشاط تجاوز الدارما العربية إلى الأفريقية والعالمية من خلال تأليفه ساوندتراك فيلم "تمبوكتو" (Timbuktu)، من إخراج المالي عبد الرحمن سيساكو. رُشّحت حينها موسيقى بوحافة لجائزة أفضل مدونة موسيقية بمهرجان كان السينمائي سنة 2015.

لأجل الشارة، لُحنّت أبيات رباعيات الخيّام الشهيرة "سَمِعْت صوتاً هاتفاً في السحر"، أدّاها المصري وائل الفشني، وذلك في مسعى إلى ربط الأغنية بالسياق التاريخي للعمل، إذ تظهر شخصية عمر الخيام ضمن أحداث القصة. وقد سبق للشاعر المصري أحمد رامي أن نقل الرباعيات عن الفارسية، ليضع لها رياض السنباطي الألحان، وتغنّيها أم كلثوم سنة 1950 من ضمن ملحمة غنائية عُرفت بعنوان "رباعيات الخيام".

تبدأ الأغنية بخلفية صوتية خافتة، وإن تظلّ مشحونة بأجواء الترقّب الدرامي، مُوزّعة لأصوات الوتريات، أو شبيهاتها الإلكترونية بتقنية الترعيد (Tremolo). فيما تُحدد الإيقاع  ضربتا أكفّ مستوحاة من طقوس الطُرق الصوفية، كموضوعة (ثيمة) ذات علاقة بالقصة وبالحقبة التاريخية. أما الغناء، فيكون مرسلاً كصرخة في فضاءٍ تعبيري، صُمّم من فراغٍ صوتي، جَرت هندسته بواسطة تقنيات التردد والصدى الرقمية، بغية تجسيد معاني الأبيات، وتصوير برزخيّة السماء من خلال موسيقى واضحة، لحظةَ ولوج ضوء النهار بعتمة الليل.

لاحقاً، ستتطوّر المادة الموسيقية للشارة، بإدخال عناصر تشويق من نُسجٍ هارمونية مُعلّبة لجهة أنماطها التشكيلية وهوّيتها الصوتيّة، تُذكّر في موسيقى مسلسلات "نتفليكس" وألعاب الفيديو، تضطّلع بأدائها مجاميع الوتريات، ترافقها طبول تُجسّد أجواء المعارك في العصور القديمة، تُحدّد موسيقياً نوع المسلسل كدراما تاريخية، قروسطية، أُنتِجت بغرض الترفيه والتسلية.
 
"ولاد بديعة" إنتاج سوري، تدور أحداثه في زمن معاصر، كتابة علي سيف ويامن حجلي، إخراج رشا شربتجي وبطولة سلافة معمار. وَضع موسيقى المسلسل المصري خالد الكمار، الذي اختص مبكراً منذ عام 2012 في كتابة الساوندتراك للسينما والتلفزيون. اختار الكمار لون التانغو لاتيني الأصول، كإطار شكلي عام للشارة التي أُلّفت موسيقيّة، من دون غناء.
 
وللتانغو كموسيقى، سواء لجهة الإيقاع أو الانسجامات المحمولة به، شخصيةٌ تُحسن تلبية متطلبات الدراما العربية، خصوصاً تلك التي تُنتج للسوق بغلاف عصري منمّق ومزوّق (Kitsch). يعود ذلك إلى توفيرها عنصر التشويق، بموجب الضربات الإيقاعية الراقصة، الحادة والنافرة التي تبث الإثارة داخل نسيج الألحان. مقابله، يأتي عنصر الرومانسية، بمقتضى الخطوط اللحنية الشاعرية التي تخرج عن التراكيب الهارمونية.


 
إلا أن الكمار، وبأسلوب معتاد، ومتوقع حين يتناول مؤلفون عرب موسيقى التانغو، سيلجأ إلى إدخال عناصر شرقية، مُستخدماً إيقاعاً بنكهة تركية، وارتجالات على آلات كمان وتشيللو، عادة ما لا تُدوّن وإنما تُضاف لاحقاً، إذ يسجلها عازفون منفردون في استديو. هكذا، تُسمع شارة "ولاد بديعة" حديثة وتقليدية في آن. ازدواجية تصلح أيضاً كتوصيف نقدي.
  
العمل الرمضاني الذي يبدو أكثر تميّزاً موسيقياً، كان عراقياً وعنوانه "العائلة X"، من كتابة وإخراج علي فاضل وبطولة جمانة كريم. وإن لم تتحرر الموسيقى المصاحبة التي وضعها العراقي حسام ناظم تحرراً كلّياً من استلهام نظيراتها في الدراما الغربية، تلك الرائجة على "نتفليكس" و"إتش بي أو"، مع ذلك، يظهر للآذان بجلاء حُسن اختيار ناظم لمصادر إلهامه.

ليس هذا فقط، بل يبدو أن المؤلف قد تمكن في موضعٍ وآخر من ترك بصمته الإبداعية الخاصة، أكان بفرادة بعض التراكيب الإلكترونية أو المعالجة الهارمونية الجريئة المعتمدة على التنافر والنشاز، ما يُشير إلى أن مقاربته الساوندتراك لجهة الشكل والمضمون تختلف عن أقرانه في الميدان، إذ تبتعد عن الغنائية التقليدية أو العصرية المنمّقة، الكيتش، وتقترب من وضع المدوّنة الموسيقية، سواء كانت لحناً أم مجرد مؤثرات إلكترونية، في خدمة السرد الدرامي أولاً وأخيراً، ولعلها تلك الغاية الأسمى من أيّ ساوندتراك.

المساهمون