مهرجان مارس موزيك... في تنقيب عن جديد

مهرجان مارس موزيك... في تنقيب عن جديد

25 مارس 2024
من عروض المهرجان (صفحة المهرجان على فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في افتتاح مهرجان مارس موزيك البرليني، أكدت كاميلا متولي على استكشاف وإعادة تقديم موسيقى أرشيفية نادرة، مع التركيز على تقديم محتوى موسيقي فريد وتعزيز التعاون مع الفنانين لخلق تجارب جديدة.
- العرض الافتتاحي قدم "أكوسمونيوم"، مشروع بحثي يستخدم مكبرات صوت متنوعة لتقديم تجربة سمعية غامرة، احتفالاً بالذكرى الخمسين لتأسيسه، متجاوزًا الحدود التقليدية للمسرح.
- المهرجان قدم أيضًا فعاليات تقليدية مثل أمسية في صالة "ديلفي"، حيث أحيت مجموعة دولية معاصرة مقطوعة "فيلاكي" لسمير عودة - تميمي، موازنة بين الابتكار التكنولوجي والتعبير الإنساني العميق.

يتبادر "التنقيب" ككلمة مفتاحية، عند استقراء الكلمة الافتتاحية التي تفوّهت بها المُنظِّمة لمهرجان مارس موزيك البرليني (Maerzmusik)، المصرية كاميلا متولّي؛ إذ استهلّت بها فعالية الأمسية الأولى التي استضافتها دار برلين للمهرجانات (Die Berliner Festspiele) مساء 15 مارس/آذار الحالي الحالي.

قالت متولّي بعد ترحيبها بجمع الحضور: "كان جهدنا مُنكبّاً بالحفر عميقاً، بطريقة أكثر انخراطاً وأكثر تشاركية، سواءً مع الفرق الموسيقية أو مع الفنانين، ليس على مشاريع معقدة وحسب، بل على موسيقى لم تُبارح يوماً دواليب الأرشيف. لذا، فإننا سعداء جداً، بإعادتنا إنشاء بعضٍ من المدوّنات الموسيقية التي لم يتسنّ لها أن تؤدّى في أوروبا، إذ ستُقدم كجزءٍ من برنامج العروض. سعدنا جداً أيضاً، بالتعاون مع فنانين مختلفين، بغية دفع الحدود حيال كلّ من الأينيّة والكيفيًة، التي لنا أن نختبر من خلالها نسخة العام من المهرجان".

لجهد التنقيب جانبٌ تقدّميٌّ، بات يستهوي عديداً من القيّمين والمشتغلين في المؤسسة الثقافية الغربية، ممن ليسوا بالضرورة صانعين لقرارها، أقلّه حتى الآن، وذلك لارتباط دلالته بمسعى استرجاع أو بعث آثارٍ فنية، أغفلها التاريخ ليس بعامل الصدفة التاريخية، وإنما بفاعل القوى السياسية التي تسطره.

موسيقى
التحديثات الحية

الجانب الآخر يكمن في أن التنقيب عن القديم المنسي يُسعف الجهات التي تُدير المهرجانات في الإتيان بالجديد غير المكرور في مشهدٍ ثقافي بات مُشبعاً بالجديد المكرور حتى التخمة؛ فالتسارع على كلّ من مساريّ الإنتاج والوصول بالمُنتج إلى المتلقين إينما كانوا، سواءً حيثيّاً أم رقميّاً، أخذ يحتّم على المنتج الفنيّ، بمجرّد صدوره، مصير التقادم. بذلك، تُمسي كلّ فكرة جديدة قديمة وكلّ ما هو ثوريّ تقليديّ.

لم يكن أيٌّ من الفنانين، مؤلفين ومؤدين، ممن وصفتهم متولي بالمختلفين، حاضراً لحماً ودماً على خشبة المسرح عشيّة عرض الافتتاح. بدلاً منهم، اعتلت الخشبة مجموعة مكبرات صوت مختلفة الأحجام والأشكال، اتسّم بعضها بتصاميم غرائبية ذات طابع فضاء مستقبلي، تستحضر مشاهد من أفلام الخيال العلمي، فبدا المسرح وكأنه استضاف فرقة موسيقية من روبوتات أو كائنات خارج أرضية.

تعرف تلك الفرقة باسم أكوسمونيوم (Acousmonium) أو "أوركسترا مكبرات الصوت"، وهي في الأساس مشروعٌ بحثي برأسين؛ واحدٌ موسيقي والآخر تكنولوجي، قاده المؤلف الرائد في الموسيقى الإلكترو- صوتية، الفرنسي المولود في مدغشقر فرانسوا بيليه (François Bayle)، وعملت على تطويره مؤسسة فرنسية، تُعرف بمجموعة الأبحاث الموسيقية Groupe de Recherches Musicales (GRM).

الغاية من وراء دعوة أكوسمونيوم لإحياء الافتتاح تكريمية، لأجل الاحتفاء بذكرى تأسيسها الخمسين. لئن أتت الفرقة بمكبرات صوتية تعود إلى زمن البدايات، فإن ثمة مكبرات عصرية جديدة من جيلٍ مواكب كانت قد ضُمّت إلى المجموعة. تتميّز كلّ منها إزاء تكبير الصوت بخواص معيارية وأخرى كيفية. من الخواص ما هو مساحي يتعلّق بطبيعة انتشار الموجات الصوتية في الفضاء وما هو لوني، يتعلّق بخملة الصوت ونبرته. لم تكتف المكبرات بافتراش الخشبة، وإنما زُرعت بين مقاعد المستمعين، منصوبةً على حوامل معدنية، لكي تتوسع مجالات التكبير وتتعدد، عبر إزالة البعد الرابع للمسرح، صوتياً ومشهديّاً.

أما الأعمال التي قدّمت عبر المكبرات، فقد اختيرت لتخطّ مساراً يوثّق إرث الموسيقى الإلكترو-صوتية، بدءاً بالرواد الأوائل، ومنهم بيليه نفسه، وصولاً إلى المؤلفين المعاصرين الشباب، كالفرنسية إيڤ أبو الخير. ومن المؤلفين من كان حاضراً بنفسه، ليمثل أمام شاشة رقمية، يُدير بأصابعه عملية بثّ موسيقاه من وحدة تحكم هندسة صوت منصوبة وسط الجمهور وموصولة إلى سائر المكبرات الموزّعة في أرجاء الصالة.
 
إلا أن ذلك الحضور المتواري للمؤلف بصفته مؤديّاً، لم يفلح من تخفيف حدة البرودة الناجمة عن غياب العازفين المؤدّين، خصوصاً عن خشبة المسرح، إثر استبدالهم بأبواق وعلب من خشب. كما غاب أيضاً عن الموسيقى التي ردّدتها المكبرات أيّ نسق تأليفي واضح السمات التشكيلية أو البنائية، وأيّ ملامح سردية، تؤالف ما بين حال المستمع وقابليته الشعورية والفكرية وبين خلطات الأصوات التي أنتجت إما صناعياً بمُركبّات الأصوات، أي السنثسايزر، أو تسجيلات حيّة من البيئة الطبيعية والعمرانية والصناعية، أي ما يعرف بالتسجيل الميداني (Field Recording).

من هنا، تناهى العرض برمته أصواتاً وأشكالاً، مشهداً ومسمعاً، وكأنه نعيٌ لدور الإنسان في إنتاج التجربة السمعية، ومحاكاة استشرافيّة لدور الذكاء الاصطناعي والآلة، المتعاظم اطراداً في صناعة موسيقى المستقبل.

من بين فعاليات مهرجان مارس موزيك التي تميّزت بحضور الإنسان في صورة أكثر تقليدية، كانت الأمسية التي استضافتها صالة "ديلفي" شمال العاصمة في 17 مارس، وأحيتها المجموعة الموسيقية الدولية المعاصرة (International Contemporary Ensemble) وتلك أوركسترا متنوعة الآلات، تتخّذ كلّاً من مدينتيّ نيويورك وشيكاغو الأميركيتين مقرّاً لها، وتتولّى تقديم الأعمال الموسيقية الحديثة.

من بين ما قُدّم في الحفل مقطوعة موسيقية للمؤلف الفلسطيني سمير عودة - تميمي المُتحدّر من بلدة جلجولية، اختير لها عنوان "فيلاكي" (Philaki) وتعني "سجن" باليونانية، أُلّفت سنة 2009.

 
على الرغم من اتسّاق مؤلَّف تميمي من حيث المدرسيّة مع السمة الأسلوبية العامة لسائر مقطوعات البرنامج، ألا وهي مقاربة الموسيقى حداثيّاً من منظور التجريد، والتموضع تفكيكيّاً إزاء الحوامل الكلاسيكية الثلاثة لها، اللحن والإيقاع والانسجام، إلا أن "فيلاكي" تميّزت بكمونٍ تعبيري عالي التوتّر ونبرة درامية نافرة جارحة، تصلها بإرث التراجيديا الموغل بالقدم في منطقة شرق المتوسط، علاوةً على تمكينها من تمثيل ثيمة السجن والمعتقل، عبر صور مجازيّة تراوحت مستوياتها الدلاليّة ما بين السيكولوجي، الإجتماعي والتحرري السياسي. 

وكأن فيلاكي بمضمون مدوّنتها الموسيقية وبين ثنايا نوتاتها التي خُطّت على الورق، لتحوّل الآلات الوترية والإيقاعية إلى مكبرات صوتٍ حيّة تبثّ في أرجاء الصالة الصراخ والعويل وتصّور صوتياً مشاهد سحل الأبدان على الإسفلت والحصى والحجارة، إنما تسعى بدورها أيضاً إلى "التنقيب"، ليس في خزائن الأرشيف، وإنما في الواقع الراهن المعاش، عن تاريخٍ يأصر حاضر الإنسان بماضيه، عبر حلقة الفشل المتجدد في إحقاق العدالة.

المساهمون