"كوكبي المسروق": صُوَرُ أرشيف تكشف ازدواجية عيش

"كوكبي المسروق": صُوَرُ أرشيف تكشف ازدواجية عيش

17 ابريل 2024
"كوكبي المسروق": اشتغال بصري على صور وتسجيلات فيديو قديمة (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الأفلام الوثائقية الإيرانية تعبر عن معاناة المرأة وتشكل مقاومة شخصية، حيث تسلط المخرجات الضوء على الحالة الجمعية للمرأة في إيران من خلال سرد قصص شخصية والتعليق على الأحداث العامة.
- يتم التركيز في أفلام مثل "كوكبي المسروق" و"العائلة، صورة شعاعية" على تأثير الثورة والانقلاب على الأسر الإيرانية، مستكشفة الازدواجية في الحياة اليومية وتأثير السياسات والمعايير الاجتماعية على الهوية الشخصية.
- تستخدم المخرجات الوثائقيات لاستعادة التاريخ الشخصي والجماعي للمرأة في إيران، مقدمة رؤية شخصية للتحديات التي تواجهها المرأة وسعيها لإيجاد مساحة للتعبير عن الذات والمقاومة في وجه القمع.

 

الأفلام الإيرانية التي تسرد معاناة المرأة لم تَعدْ تُعَدّ. أفلام وثائقية، تُحقّقها نساءٌ تحديداً. نوعٌ من المقاومة الشخصية، والسيرة الذاتية. رغبةٌ في إسماع الصوت المنطلق من حالة خاصة، للتعبير عن الجمعيّ. الصوت، هنا، بمعناه الحرفي. فمخرجة الفيلم تسرد بنفسها حاضراً، وعبره تاريخ. تُعلّق على أحداثٍ عامة تركت أثرها في حياتها الشخصية. صوتٌ يحمل شجناً، يُعبّر عن حالة نفسية مؤرقة، ووضع صعب الاحتمال.

ما فعلته الإيرانية فرحناز شريفي، في "كوكبي المسروق" (2024)، مشابه لما فعلته صديقتها فيروزة خسرواني في "العائلة، صورة شعاعية" (وثائقي، 2021)، في الحديث عن الثورة. تلك، حين تتسلّل من الخارج إلى الداخل، إلى البيت، ليمتلئ بها في فيلم خسرواني، وليقاومها في فيلم شريفي.

الانقلاب، ويعني الثورة في اللغة الفارسية، يقلب حياة أسر، تنتمي إلى الطبقة الوسطى خاصة، ويجلب مفاهيم جديدة. في بيت خسرواني، حاضر بقوّة في الداخل، في شخصية الأمّ المؤمنة بالثورة. في فيلم شريفي، يبقى خارجاً بصورة ما، ليُقسم الحياة إلى اثنتين: خارج البيت وفيه. تعتمد شريفي هذه الثنائية، التي تُثقل على روحها. صُوَر الأرشيف تدعم خطّتها، بكشف ازدواجية عيشٍ تبدأ باكرة. أوّلها، عند دخولها المدرسة. صورة رسمية بالحجاب، لتوضع على هويتها المدرسية. في مقابلها، صورتها في البيت من دون الحجاب.

من هنا، يبدأ كلّ شيء. كيف نبدو في الخارج أمام الآخرين، وكيف نحن بعيداً عنهم. شخصيتان من الطفولة، في "الداخل" و"الخارج". الفتاة الصغيرة، بعد أنْ كبِرَت، تتذكّر أنّ أول ما تعلّمته في المدرسة تمنّي الموت للآخرين. تؤكّد نظريتها بمرور لوحة جدارية مشهورة في أحد شوارع طهران، رُسم فيها العلم الأميركي بحجم كبير، وقنابل وصواريخ تعبره، وخُطّ عليها "الموت لأميركا". صورة يراها يومياً عابرو العاصمة.

تستعيد شريفي تاريخ بلدها، منذ قيام ثورةٍ وانهيار حكمٍ، من خلال المرأة (كما فعلت خسرواني). حصل الانقلاب في يومٍ قريب من عيد المرأة. في رأيها، لم يكن ما حصل عيداً للمرأة. تُركّز على قضية الحجاب بوصفها سبباً رئيسياً لهذه الازدواجية في العيش. إنّه ليس مجرّد قطعة قماش. إنّه رمز. أمّا هي، فلا ترتاح حين لا تكون شبيهة نفسها، وحين تفرض صورة مغايرة أمام الآخرين. وإذْ تتجوّل اليوم في مركز المدينة، تمرّ بعدستها لوحات جدارية لرجال دين ومقاتلين، ونساء يرتدين التشادور الأسود، وأشخاص يحتفلون بقاسم سليماني. لا تجد في هذا المكان ما يشبهها. هذا ليس عالمها ولا تاريخها. لهؤلاء عالمهم، في حين أن عالمها سُرق منها. تبحث عن تاريخٍ يمثّلها، لا علاقة له بآخرين من مواطنيها، تاريخهم حجاب وشهادة وثورة.

 

 

يصبح هذا هوسها وسيلةً لا غنى عنها، لها بالذات، للهرب من إحساس باللاأمان. تقرّر التقاط لحظات السعادة اليومية من الماضي الذي بات جريمة، كما تقول. أنْ تجمع أجزاء من أشرطة 8 ملم، فيديو لعائلات إيرانية لا أحد من أفرادها في إيران اليوم، إذْ غادروا على عجل بعد انهيار حكم الشاه، تاركين كلّ شيء وراءهم. علاقتها مع ليلى المغنية، التي غادرت إيران في تلك الفترة المضطربة وهي مُراهِقة، كانت نتيجة عثورها على أفلامٍ قديمة لها. تتواصل معها. يتبدّى لدى ليلى هذا الارتباط بالبلد الذي لا يغادر المرء حتى لو غادره. شريفي لا تريد ترك بلدها، ربما تتركه فترة قصيرة فقط إلى ألمانيا، لإقامةٍ فنية (الفيلم إنتاج مشترك مع ألمانيا).

تبيّن هذه العلاقات الحميمة التي تربطها بأسرتها، كأنّ الفروض الخارجية حتّمت تضامناً خفياً، لا شعورياً، مع أقارب وأصدقاء. تبدي فرحتهم معاً، وحين تسرد الفرح، تفعل بالوتيرة نفسها المُثقلة بشجنٍ، وتستعين بأفلام فيديو قديمة تبدي بهجةً حَلّ مكانها اليوم انطفاء روح. أناس يرقصون في كلّ وقت وكلّ مناسبة.

يغتني الشريط ببعض أحداث مهمّة، تخفّف من أثر التكرار. أجملها وأندرها: فرحة الفتيات، والنساء عامة، بالذهاب إلى الملعب. وافقت السلطات على منحهنّ حقّ حضور الفريق الإيراني وتشجيعه. بنظرةٍ شخصية، تُبيّن الحدث بعدستها التي لم تكن تفارقها. تعرض فيديو يُبيّن تحضيراتها مع صديقاتها: أعلام وألوان على الوجه، ثم ينطلقن بكلّ المكبوت فيهنّ، بالتشجيع في الجهة المخصّصة بالنساء، المُقابِلة لجهة الرجال، والملعب فاصل بين الجهتين. لكنّ أصواتهنّ المنطلقة للمرّة الأولى خارجاً، أعيد كتمها في منع جديد.

ما فرضته السلطات لا يؤثّر عليها وعلى محيطها فقط، بل هذا "الكذب" الذي تُصرّ عليه، وتحاول فرحناز شريفي أنْ تُبيّنه في مشاهد كثيرة. إنّهم يكذبون طوال الوقت، تقول. تُعطي مثلاً مؤثِّراً: حادثة الطائرة الأوكرانية التي أسقطتها القوات الإيرانية، ظنّاً منها أنّها طائرة عدوّة.

تعتمد شريفي، في 82 دقيقة، على اشتغال بصري قائم على الصورة وتسجيلات الفيديو القديمة، المهزوزة أحياناً. توليفٌ ينتقل من ماضٍ وشخصيات فرحة، إلى حاضر بلا فرح، كما تراه. في سردٍ متتالٍ زمنياً، تصل إلى ما يحصل اليوم في إيران. بفضل الهاتف الجوّال، كلّ شيء يُعرَف. تُبيِّن أنّ المرأةَ الضحيةُ الأولى، والهاتف اليوم ينقل قتل ندا في أحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009. ثم تصل إلى تظاهرات "امرأة، حياة، حرية". تستنتج أنّ الغضب يذهب بالناس إلى درجة لا يعرفون بعدها التعامل معه. يحاولون مداواة الجراح بالرقص، فيأس النفوس شعور سيئ. غضبها أكبر من قوّتهم، والحياة تواجه الموت دائماً. هؤلاء الذين سرقوا حياتها وتاريخها ودنياها. تُسجّل وتُسجّل، وربما يعثر أحدٌ على ما سجّلتْ، ويستفيد منه هو الآخر، كما فعلتْ مع أشرطة تاريخها.

شريفي، التي لها أفلامٌ قصيرة قبل إنجازها هذا الوثائقي الطويل، لم تحضر الدورة الـ26 (7 ـ 17 مارس/آذار 2024) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للفيلم الوثائقي"، رغم أنّ "كوكبي المسروق" مُشارك في المسابقة الرئيسية للفيلم الوثائقي الطويل، إذْ لا جواز سفر لديها. الفيلم فاز بـ"جائزة الإسكندر الذهبي ـ الجائزة الكبرى".

المساهمون