قاتل يتخفّى في السماء

قاتل يتخفّى في السماء

25 مارس 2024
في خانيونس (أحمد حسب الله / Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الطائرات المسيرة تعتبر أداة حربية فعّالة تحمي الجنود لكنها تسبب خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين، مثلما حدث في عهد أوباما بمقتل حوالي 350 مدنياً في الشرق الأوسط.
- في قطاع غزة، استخدمت الطائرات المسيرة لاستهداف فلسطينيين مجهولي الهوية، مما يعكس استخفافاً بحياة الإنسان ويصنف كجريمة حرب.
- الفيديو المسرب يظهر البعد النفسي والأخلاقي لاستخدام الطائرات المسيرة، حيث يتحول القتل إلى "رياضة رقمية"، معكساً فجوة كبيرة بين القاتل والضحية.

توصف الطائرات المسيرة في الدراسات العسكريّة بأنها "قاتل إنساني"؛ أي لا تُورط الجندي في اشتباك مع "العدو" فتحمي حياته، وتكبد "العدو" أكبر خسائر ممكنة. هذه المقاربة كشفت عدميتها في عهد باراك أوباما، الذي أمر بأكثر من 500 ضربة مسيّرة خلال رئاسته، تسببت بمقتل ما يقارب 350 مدنيّاً في الشرق الأوسط.
اليوم، تظهر صورة المسيّرة القاتلة مرة أخرى من قطاع غزة. تسجيل تداولته وسائل الإعلام لمسيّرة تحلّق فوق خانيونس، يظهر فيه كيف "اصطادت" ثلاثة فلسطينيين، هوياتهم مجهولة، ثم تقتل الرابع الذي يمشي مدركاً موته المحتّم.
التسجيل القصير يكشف تحول الفلسطينيين في قطاع غزة إلى أهداف للتدريب. لا تهم هوياتهم أو الاشتباه بحملهم لسلاح. استهدافهم رياضة، لا لشيء سوى القتل. جريمة الحرب هذه موثقة لا يمكن الجدل فيها. وهنا تأتي إشكالية المسيرة كسلاح فتّاك. لا يمكن استهدافها أو الوقوف في وجهها، هي تقتل بناء على ما يظهر على الشاشة. لا تمتلك الضحية حق الاستسلام أو الدفاع عن نفسها. المسيرة تترصّد لتصيد الهدف من دون رحمة. وفي هذه الحالة، الواضح أن الشبان لا يحملون السلاح، وبالتأكيد سيصرح الجيش الإسرائيلي بأن من قتلوا "مشتبه بكونهم إرهابيين".
صورة الهيمنة على السماء التي تلتقطها المسيرة تتجاوز المراقبة، نحن نشاهد بعين القاتل، إذ يترصد، ويضبط الهدف، ويطلق النار، حتى لو حاول "الهدف" طلب الرحمة، كأن يركع على قدميه أو يمشي هوناً، فلا فائدة. المسيرة أشبه بلعبة فيديو، الأهداف "غير حقيقية"، هي ظلال يكفي فقط إطلاق النار عليها.
لا نظن أن فيديو كهذا سيغير الرأي العام العالمي، أو يهدد إسرائيل، كما حصل مع الفيديوهات المسربة من أفغانستان والعراق التي تظهر استهداف المسيرات الأميركية للأبرياء. إجرام إسرائيل يتجاوز أن تفضحه صورة، لكن هذا التسجيل نفسه يزرع الرعب، خصوصاً أنه يستهدف مكاناً خالياً. لا هدف فيه سوى أربعة أشخاص يمشون.
اللافت أن هذا "التسريب" الذي تم الوصول إليه بالمصادفة كون المسيرة أُسقِطت، لن يكون الوحيد، لا بد أنه في مكان ما، يمتلك جيش الاحتلال الإسرائيلي ساعات من تسجيلات كهذه. وهنا يتجلّى الرعب؛ نحن لا نعلم من أخذ قرار القتل، قائد المسيرة؟ قائد الكتيبة؟ ما الذي أثار شبهة من يشاهد على الشاشة ليقرر قتل الجميع؟ ألوان ثيابهم؟ أنهم حفاة؟
كل الأسئلة السابقة من الصعب الإجابة عليها، حتى في الحالات التي تم التحقيق بها في الولايات المتحدة، المسافة بين القاتل والضحية شبه معدومة في ضربات المسيرة. نحن فقط أمام شاشة تشبه ألعاب الفيديو، القتل يفقد فظاعته، ويتحول إلى رياضة رقميّة.
الرعب في الفيديو أنه ثابت، لا يهتزّ. المسيرة تتحرك بهدوء لضبط الهدف ومدى الإصابة. وككل الصور الثابتة والنظيفة في الحروب، هي صور القاتل دوماً، الصور التي تلتقطها الضحايا، مهتزة، مليئة بالعواطف. أما هذه الصورة، فثابتة ثبات قاتل يعلم بدقة ما يفعله، لا تردُّد فيها ولا التباس.
كثرت التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذا التسجيل. أحدها يشير بدقة إلى سكون وثبات الأخير الذي قُتل،  ذاك الذي يمشي هويناً، يعلم أنه على بعد لحظات من الموت.، العالم كله يتداعى ويتكثف في مشيته. الترويع هنا أنه مدرك لموته، لكنه لم يتلفت، قُتل غدراً، ككلّ الفلسطينيين في قطاع غزة. جبن القاتل أنه يتخفى في السماء، لا يحدّق في عين ضحيته، تلك التي تمشي مدركة أن الموت قادم، لا مكان للجدال ولا أحد للاشتباك معه. هذا الفيديو، وثيقة لتاريخ من القتل بهدف القتل، ما من بلاغة لتبريره سوى استعادة امتلاك السماء.

المساهمون