روجر ووترز... روك على الجبهة

روجر ووترز... روك على الجبهة

10 ديسمبر 2023
في العاصمة الكولومبية قبل أيام (راؤول آربوليدا/ فرانس برس)
+ الخط -

من بين كل الفنانين الغربيين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، يحتل الموسيقي البريطاني روجر ووترز (1943) مكانة استثنائية، فالرجل الذي اشترك منتصف الستينيات في تأسيس "بينك فلويد"، إحدى أشهر فرق الروك في العالم، وأوسعها انتشاراً ومبيعاً، عُرف بإصراره وقوته في مساندة القضية الفلسطينية، بمستوى من الاستمرارية التي لا تعرف الكلل ولا اليأس عقوداً تلو عقود، واجه خلالها كثيراً من الصعاب والتحديات، بسبب جرأته في تأييد الحقوق الفلسطينية، وانتقاد جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

في سبتمبر/ أيلول الماضي، أتم ووترز 80 عاماً، ولم يمنعه الوهن من التضامن مع قطاع غزة، بعد عملية طوفان الأقصى، معلناً في كل محفل أو لقاء إعلامي، أن مقاومة المحتل حق تكفله اتفاقيات جنيف، وأن إسرائيل لم تقدم أي دليل على ادعاءاتها حول ارتكاب كتائب القسام جرائم ضد المدنيين والأطفال. تلاحق اللوبيات الصهيونية ووترز في كل مكان، وتعمل على إلغاء حفلاته، وترفع في وجهه تهمة معاداة السامية، لكن الرجل لا يهتز ولا يلين في نصرة الحق الفلسطيني.

تميّزت فرقة "بينك فلويد"، منذ تأسيسها، بطابع فلسفي، تمثل في إنتاجها ما يعرف بـ"ألبوم الفكرة"، أو Concept Album؛ فأغنيات الألبوم في مجموعها تدور حول فكرة مركزية، والأغنية الواحدة تناقش جانباً من جوانب تلك الفكرة، كما تميز بموسيقى وجدانية معبرة.

مبكراً، أصبح ووترز كاتب أغنيات الفريق، وتناول بكلماته أبعاداً إنسانية عميقة، مثل الغاية من الوجود، والتنافس البشري بحثاً عن "المعنى" في حياة الإنسان. وكان عام 1973 مفصلياً في مسيرة ووترز وفرقته، بعد أن وضع كلمات أغنيات عشر لألبوم "الجانب المظلم للقمر"، متحدثاً عن رحلة الإنسان في الحياة، بدءاً من الميلاد، وانتهاءً بالموت والفناء. كان النجاح الجماهيري للألبوم هائلاً، تجارياً وفنياً، إذ تصدّر قائمة بيلبورد 200، وظلّ على قوائم الأكثر مبيعاً مدة 741 أسبوعاً، أي إلى ما يقارب 15 عاماً، باع خلالها أكثر من 50 مليون نسخة.

صحيح أن أعضاء الفرقة اشتركوا في تلحين الأغنيات، وقدموا بعزفهم مبررات النجاح الكبير للألبوم: ديفيد غيلمور على الغيتار الأساسي، وريتشارد رايت على الكيبورد، ونك ميسون على الطبول. لكن ظلت كلمات روجرز مفتاح السر لفهم مكانة هذا الألبوم في تاريخ الروك والغناء المعاصر.


   
بعد عدد من الألبومات الناجحة، وتحديداً عام 1979، انفصل ووترز عن الفرقة التي شارك في تأسيسها، ثم قيادتها، لكنه كان قد ترك علامات مفصلية في تاريخ الروك، ومنها ألبومه الشهير "الجدار" الذي ينتمي إلى نمط "الأوبرا روك"، ويحكي عن شخصية وهمية اسمها "بينك"، وأسباب عزلته، وحالته النفسية الرافضة للآخر. يرى كثير من جمهور الروك أن هذا الألبوم مستمد من سيرة ووترز نفسه، وبدايات حياته، بعد أن قُتل والده على الجبهة الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديداً عام 1944، وكان ووترز رضيعاً في الشهر الخامس.

كان لهذا اليتم المبكر أثره الضخم في نفسية الموسيقي البريطاني وتفكيره، ولاحقاً، تزايد اهتمامه بمناطق الحروب والصراعات، وفي مقدمتها النضال العربي ضد الاحتلال الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، فقد فهم الرجل مبكراً أسباب الحرب، وأدرك أبعاد الظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، فألزم نفسه ببذل كل ما يستطيع من جهد لفضح الاعتداءات الإسرائيلية، وتأييد المقاومة الفلسطينية.

يرى ووترز أن الجماهير في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، لا تملك فهماً يعكس واقع القضية الفلسطينية. وتبعاً لهذه الرؤية، تعهد الرجل بانتهاز كل فرصة للتعريف بمأساة الشعب الفلسطيني، والتنبيه إلى جرائم الاحتلال، ولفت انتباه الجماهير الغربية إلى المظلومية التاريخية للفلسطينيين.

من الصعب تتبع مظاهر التضامن التي يبديها ووترز مع الشعب الفلسطيني، لكن يمكن لمن يرصد بعض هذه المظاهر في السنوات الأخيرة، أن يتوقف أمام تضامنه مع أهالي حي الشيخ جراح في القدس، إذ نشر فيديو هاجم فيه دعم الإدارة الأميركية لإسرائيل، رغم تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، الذي اتهم دولة الاحتلال باتباع نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، كما قال إن "بايدن (الرئيس الأميركي جو بايدن) ما زال مستمراً بدعم إسرائيل في أي شيء. ويستمر بدعمها في إخراج الناس من منازلهم". ووجه وخاطب ووترز الرئيس الأميركي متسائلاً: "ماذا لو كنت في بيتك الذي تعيش فيه عائلتك منذ مئات السنين، وجاء أحمق من بعيد وقال لك أنا سآخذ بيتك؟".

يعد ووترز أحد أبرز رموز حركة مقاطعة إسرائيل، التي انطلقت عام 2005 والمعروفة اختصاراً بـBDS. تدعو هذه الأخيرة إلى وقف كل أشكال التعامل مع دولة الاحتلال، وسحب الاستثمارات منها، واعتبارها دولة فصل عنصري. يشارك ووترز في كثير من فعاليات الحركة، ويبرر هذه المشاركة قائلاً: "حين ترفض الحكومات التصرف، فعلى الشعوب المبادرة إلى ذلك بأي وسيلة سلمية متوفرة، ويعني ذلك بالنسبة لي الالتحاق بحركة مقاطعة إسرائيل، وفرض العقوبات عليها".

أدى ووترز أغنيات عدة لمناصرة القضية الفلسطينية، منها We Shall Overcome. تقول كلماتها: "عميقاً في قلبي، أؤمن بأننا سننتصر يوما ماً. سنسير يداً بيد، وسنستعيد الأرض. وسنزرع أشجار الزيتون، من نهر الأردن إلى البحر. سنسير يداً بيد. ونحطم جدران السجن. كما أدى ووترز أبيات ترجمها من قصيدة محمود درويش الشهيرة: "من خطبة الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض".

بعد تصاعد العدوان على قطاع غزة، كثف ووترز من فعالياته المؤيدة للشعب الفلسطيني، وظهر في كثير من الحفلات مرتدياً الكوفية الفلسطينية، أو متشحاً بالعلم الفلسطيني، كما أجرى كثيراً من اللقاءات التلفزيونية التي كرر فيها إدانته الجرائم الصهيونية ضد الأطفال والنساء والمدنيين في قطاع غزة. وأيضاً، وظف حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي لحشد الجماهير ضد المجازر التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة.

وتمثيلاً، نشر ووترز على حسابه في "إنستغرام" صورة لأب فلسطيني يحمل جثمان طفل رضيع، وكتب معلقاً: "أعلم أن قلبك في المكان الصحيح، من فضلك توقف عن مناشدة كلا الجانبين. لا يوجد تكافؤ بين المظلومين الفلسطينيين والظالم الحكومة الإسرائيلية. الظالم يقتل المظلوم منذ خمسة وسبعين عاماً. انضم إلى صوت الشعب، وجوقة الاحتجاج الضخمة في جميع أنحاء العالم، وخاطب الفاشيين الإسرائيليين: أوقفوا الإبادة الجماعية الآن".

تطارد جماعات الضغط الصهيوني روجر ووترز في كل مكان، وتبذل جهوداً كبيرة لإلغاء حفلاته، وتهدد الفنادق التي يحاول أن يحجز فيها غرفة للمبيت بشن حملات مقاطعة ضدها، مثل ما حدث معه منتصف الشهر الماضي، عندما اضطر للبقاء في البرازيل، وإلغاء رحلته إلى الأرجنتين. وقال في تصريحات صحافية: "بطريقة ما، تمكّن الأغبياء في اللوبي الإسرائيلي من السيطرة على كل الفنادق في بوينس آيرس ومونتيفيديو وتنظيم هذه المقاطعة الاستثنائية التي تستند إلى أكاذيب خبيثة عني".

تُصوّر اللوبيات الصهيونية ووترز باعتباره معادياً للسامية، ومؤيداً للنازية والإرهاب، ويتهمونه بأنه يفضل حياة الفلسطينيين على حياة الإسرائيليين. يدبجون ضده المقالات والموضوعات الصحافية، بل والأفلام الوثائقية التي صدر آخرها بعنوان "الجانب المظلم لروجر ووترز". وقد أدت مواقف الرجل إلى خسارته بعض رعاة جولاته الموسيقية، مثل "أميركان إكسبريس" في عام 2017، ودوري البيسبول الأميركي في عام 2020.

بلغ روجر ووترز من الكبر عتياً، وحقق في حياته نجاحات متواصلة، بعد أن ترك بصماته وأفكاره على مسيرة موسيقى الروك والميتال في العالم كله، وأصبح واحداً من أثرياء الموسيقى الذين يمتلكون ثروة تقدر بعشرات ملايين الدولارات. وكل ذلك يعد في أعراف الناس أسباباً منطقية للراحة، وإيثار السلامة، والابتعاد عن المعارك والمنغصات. لكن ووترز أثبت أنه أقوى من كل اللوبيات الصهيونية، وأن "من يعش ثمانين حولاً" لا يسأم من نصرة فلسطين.

المساهمون