جمال سلامة... الموسيقي الذي واصل العزف

جمال سلامة... الموسيقي الذي واصل العزف

05 مايو 2023
أدخل عناصر موسيقية جديدة على الأغنية الدينية (فيسبوك)
+ الخط -

ما إن بدأت أم كلثوم في الغناء، حتى توقف التخت عن العزف، كما جرت العادة، باستثناء عازف الأورغ الشاب الذي كان قد انضم إلى الفرقة حديثاً، لينبهه أحد زملائه أن لا أحد يعزف أثناء غناء الست، لكن الشاب فوجئ بأم كلثوم تطلب منه استكمال عزفه معها ليسعد بهذا الامتياز.

لم يكن عازف الأورغ هذا إلا جمال سلامة (1945 - 2021). إلى جانب التأليف الموسيقي في كونسرفتوار القاهرة، درس البيانو، ثم ابتعث بعدها إلى موسكو حيث التحق بكونسرفتوار تشايكوفسكي، وأهله ذلك للحصول على أعلى شهادة في التأليف الموسيقي من المعهد الروسي الرفيع.

رغم تقدير أم كلثوم، إلا أن الموسيقي الطموح قرر مغادرة الفرقة، فما جمعه من معارف موسيقية ألح عليه أن يتخذ مساراً آخر يستثمر عبره ما درسه، سواء في كونسرفتوار القاهرة، أو ما حصله أثناء تلمذته على يد الموسيقي المهم جيوفاني ميخائليوف، والمؤلف الأرميني الشهير خاتشاتوريان في موسكو.

في تلك الفترة، ازدحمت الساحة الفنية بعدد كبير من الأسماء البارزة في عالم التلحين، أمثال محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي ومحمود الشريف وكمال الطويل وبليغ حمدي، غير أن ذلك لم يُعجز سلامة عن أن يجد مكاناً له وسط هؤلاء، وجاءت البداية مع لحنين عُدّا من أشهر ألحانه في ما بعد، لكن لم يُغنَّ أي منهما إلا بعد سنوات طويلة من تلحينهما، الأول "ساعات ساعات" وغنته صباح بعد عشر سنوات، والثاني "قال جاني بعد يومين" وغنته سميرة سعيد بعد 12 سنة.

سبق هذه البداية المؤجلة تقديمه الموسيقى التصويرية لفيلم "حمام الملاطيلي" (1973). تبع ذلك اشتغاله مع يوسف شاهين في عمل من أبرز أعماله "عودة الابن الضال" (1976)، إذ تواصل معه المخرج بواسطة صلاح جاهين وكمال الطويل حتى يضع "لحناً عالمياً" تعزفه الأوركسترا وتغنيه ماجدة الرومي، ليثمر التعاون بين الثلاثة: صلاح جاهين (الكلمات)، وكمال الطويل (اللحن)، وجمال سلامة (التوزيع)، أغنية "مفترق الطرق".

تكرر التعاون مع ماجدة الرومي وغيرها من نجمات ذلك الزمن، فلحّن للرومي "يا بيروت يا ست الدنيا" و"مع الجريدة" من كلمات نزار قباني، و"بدي أقلك" و"لن أعود" و"لون معي الأيام" و"عيناك" وغير ذلك، وقدم لشادية "مصر اليوم في عيد" و"أمي" و"حياة رب المداين"، بينما خص سميرة سعيد بأكثر من ثلاثين عملاً، ساهمت بنصيب كبير في شهرتها، كان منها "مش حاتنازل عنك أبداً" و"احكي يا شهرزاد" و"أنا مالي".

جاء عمله الأول للدراما عبر المسلسل الديني الشهير "محمد يا رسول الله"؛ فنبه الجميع إلى شخصية موسيقية متميزة. للمرة الأولى يستمع الناس إلى صوت آلة البيانو في عمل ديني، ولفت الانتباه في هذا العمل أيضاً باستخدامه المميز للكورال، وهي سمة اشتركت فيها العديد من أعماله بعد ذلك.
رشحه العمل الناجح إلى أن يتقدم لساحة الأغنية الدينية التي أهملها بدرجة كبيرة أغلب موسيقيي العصر الكبار، فصنع لياسمين الخيام ما يزيد عن أربعين عملاً دينياً، فإلى جانب ألحان مسلسل "محمد يا رسول الله"، أهداها ألحان عمل درامي آخر، هو "ولد الهدى"، وأيضاً ألحان أغان مثل: "سلام يا طه" و"آمنة أم النبي" و"لبيك يا رسول الله. كما غنت له نجاة "قلوب هداها الله"، ووصل وردة بأغنية "نبينا الكريم".
عبر هذه الأعمال وغيرها، فض سلامة حصاراً أقامه من سبقه من الملحنين حول الأغنية الدينية، حيث ألزموها قالبي الموشح والطقطوقة، واقتصرت آلاتها على الدفوف والعود والمزاهر، ليأتي سلامة ويبتعد بها نحو الشكل الأوركسترالي.

لم يغفل أستاذ الكونسرفتوار أغاني المناسبات والأغنية الشعبية من أعماله التي تجاوزت الألف عمل، فقدّم عدداً من أشهر أغاني المناسبات، مثل "أهلاً بالعيد" لصفاء أبو السعود، و"الله بعودة يا رمضان". كما غنى له محمد رشدي الأغنية الشعبية "فنجان قهوة" و"العربي محمد". وقدم للمطربة فاطمة عيد عدداً من أشهر أغانيها، مثل "التوتو ني" و"حلاوتك يا ستفندي" و"يا ديني يامه"، كما تتر البداية والنهاية لفيلم "أفواه وأرانب" الذي كان من أوائل الأعمال السينمائية لجمال سلامة، وسبقه فيلم "أريد حلاً"، ورشحته في العملين بطلتهما فاتن حمامة، ليفوز عن العمل الأول بجائزة أحسن موسيقى تصويرية من وزارة الثقافة.

البداية الموفقة في مجال التأليف الموسيقي سرعت خطاه في هذا الجانب، وازدادت وتيرة أعماله بسبب مزيج البساطة ونزوعِ إلى التجديد ميز مؤلفاته الموسيقية للسينما، وكان من أهمها موسيقى "النمر الأسود"، و"االكرنك"، و"حتى لا يطير الدخان"، و"حدوتة مصرية"، و"المدمن"، و"قصة سميحة بدران"، و"المتسول"، و"العذاب امرأة"، و"رحلة النسيان"، و"حبيبي دائما"، و"ليلة بكى فيها القمر".

هذه "البساطة" الغالبة على أعماله حصلها سلامة في مرحلة مبكرة من حياته، حيث اشتغل، ولم يتجاوز عمره العشرين، عازفاً للأورغ مع أسماء مثل شكوكو وإسماعيل ياسين وثريا حلمي، وغيرهم ممن عنوا بتقديم الأغاني الخفيفة والمونولوغ، فكانت الأقرب إلى الناس، لتصقل تلك الفترة هذا الحس لدى سلامة.
وكما طبعت البساطة أعماله السينمائية، تتبعت موسيقاه في الدراما، لتجذب إليها الجمهور، فكان من نصيبه واحد من أكثر الأعمال الموسيقية خلوداً، "ذئاب الجبل"، إضافة إلى أعمال مثل "فوازير عمو فؤاد"، و"أحلام الفتى الطائر"، و"الحب وسنينه"، و"بين القصرين".

من المساحات التي أظلها إبداع سلامة أيضاً الأوبريت والأغنية الوطنية، إذ قدّم الأوبريت مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، من ذلك "حراس الوطن" و"اللهم لا اعتراض"، بمشاركة كل من الكويتيين عبد الله الرويشد وسعاد عبد الله إبان، في حين ساهم سلامة في الأغنية الوطنية بأغان من قبيل "مصر يا أول نور في الدنيا" و"بلدي" و"مصر اليوم في عيد" التي اعتبرت بمثابة الأغنية شبه الرسمية لانتصار حرب أكتوبر.

كل هذا لم يصرف الموسيقي المصري عن تقديم أعمال متميزة اتصلت بموضوع دراسته: الموسيقى الكلاسيكية الغربية. فألّف أعمالاً مثل سيمفونية مصر الحديثة (فاز عنها بجائزة موسيقية من إيطاليا)، وافتتاحية للأوركسترا، ومقطوعتين للأوركسترا "ذكريات" و"رقصة الأقصر"، أيضاً أوبرا باليه "عيون بهية"، إلى جانب مجموعة من موسيقى الحجرة للبيانو والكمان والشيلّو قدمها في مسابقة تشايكوفسكي أثناء دراسته في موسكو، لتؤهله تلك الأعمال إلى الحصول على وسام العلوم والفنون عن التأليف الموسيقي الأوركسترالي.

تقدم سلامة عبر مسيرته التي بدأت منذ السبعينيات في أربع مسارات متوازية: الألحان والتوزيع والتأليف الأوركسترالي والأوبريت والموسيقى التصويرية، لتسجل تلك المسارات سيرة ثرية متفردة لواحد من أهم الموسيقيين المصريين خلال نصف القرن الأخير.

المساهمون