"المنزل يحترق فلنتدفأ": جماليات ورمزيات عمّقت النص السينمائي

"المنزل يحترق فلنتدفأ": جماليات ورمزيات عمّقت النص السينمائي

18 يونيو 2023
مولود آيت ليوتنا أثناء تصوير الفيلم (الملف الصحافي)
+ الخط -

أظهر المخرج الجزائري مولود آيت ليوتنا موهبته السينمائية في أول أفلامه الروائية القصيرة "أخَام يرغا، مقّار أَنسحمُو" (المنزل يحترق فلنتدفأ، 43 دقيقة) الذي شارك في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023) لمهرجان كانّ السينمائي، في قسم "نصف شهر المخرجين" الذي تُنظّمه "جمعية المخرجين الفرنسيين" كتظاهرة مُستقلة في المهرجان. إنّه أول فيلم ناطق باللهجة الأمازيغية يشارك في هذه التظاهرة السينمائية، رغم تجارب مهمة عدّة سبقته، من أفلام طويلة وقصيرة.
تناول مولود آيت ليوتنا، كاتب سيناريو فيلمه هذا أيضاً، موضوع المنفى/الهجرة، الـ"ثيمة" المحورية في المدوّنة الثقافية القبائلية، في السينما والمسرح والرواية والقصّة والشعر والغناء، وغيرها من الروافد الثقافية الأخرى، وهذا منذ عقود، بناءً على تجربة كلّ عائلة، أو بعبارة أدق، تجرّع كلّ عائلة مرارة الفَقد، بسبب هجرة واحد أو أكثر من أفراد الأسرة (أب، ابن عمّ، خال)، أو أي فرد آخر (المخرج نفسه هاجر إلى فرنسا قبل تجاوزه 18 عاماً). تزايدت الهجرات في حروب الدولة الفرنسية التي شاركوا فيها كجزائريين كثيرين، بعد فرض التجنيد عليهم، في الجزائر المستعْمَرة (1830 ـ 1962)، خاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو بسبب الظروف الاقتصادية المزرية المحيطة بهم التي تدفعهم إلى الهجرة لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم، ولتحسين فرصهم.
لم تتوقّف الهجرة بعد استقلال الجزائر (5 يوليو/ تموز 1962)، بل إنّها مستمرّة لغاية اليوم، للأسباب نفسها تقريباً، باستثناء المشاركة في الحروب، إضافة الى عوامل سياسية، أو ما يُعتَبر نوعاً من القمع، وغياب الفرص والعدالة الاجتماعية، ومعطيات أخرى أشار إليها الفيلم بطريقة ذكية، من دون التورّط في المُباشرة.
يانيس (مهدي رمضاني) يعيش في بلدة في منطقة القبائل. يحلم بالهجرة الى الضفة الأخرى، حيث شريحة واسعة من أقرانه، بحثاً عن فرصة جديدة لحياته، وعيش مستقبل أفضل من الذي يعيشه في بلدته، وبلده عامة. في ترتيبه أوراق الهجرة وتذكرة السفر، يحدث ما لم يكن في الحسبان: موت صديق طفولته فجأة، بطريقة مأساوية، فيقرّر حضور الدفن والبقاء للعزاء. في تلك الفترة، تقع أحداث غير متوقّعة، فتتهدّد رحلته. لكنّ وقوف صديقه حميد (محمد لفقير) معه غيّر مسار الأحداث مجدّداً. في الوقت نفسه، اكتشف أشياء عدّة كان يجهلها.
بمجرد انتهاء المشاهدة، تتبلور لدى المُتلقي فكرة شاملة عن مرجعية مولود آيت ليوتنا ورؤيته: إنّه صاحب مشروع سينمائي، لا مجرّد عابر فيها، أو صاحب حظّ. استخلاص هذه القيمة الفكرية منبثق من معطيات موضوعية وجمالية عدّة، بدءاً باهتمامه الكبير بالتفاصيل الصغيرة في كلّ مشهد ومع كل شخصية. معطيات صنعت هوية العمل وجماليته، وأعطته بُعداً محلياً، مثل عكسه رمزية شجرة الزيتون. معطى كهذا برز في مظاهر عملية الجني، وتحويل زجاجة زيت الزيتون إلى حاجة لدى يانيس، الذي وضعها في حقيبة سفره، فهذه المادة تعني هوية منطقة القبائل، وتحمل الأهمية نفسها لدى الفلسطيني.
من بين أكثر المشاهد الموظّفة بطريقة ذكية وجود حميد في المقهى، وإخراجه من جيبه كيس "الشمّة" (نوع من التبغ)، ولَفّه التبغ بورقة وضعها أسفل شفته العليا، ثم تحريك فمه لتأخذ مكانها الصحيح. هذه طريقة منتشرة بين شباب جزائريين كثيرين. مشهدٌ من شأنه خلق جسر قوي بين الشباب المحليين والفيلم. هناك أيضاً طريقة إعداد أمّ يانيس مائدة الفطور، وكيفية جلوس أفراد العائلة حولها. ربما يراه البعضُ عادياً، لكن القبائليّ والجزائري، خاصة أبناء القرى والمداشر، يعني لهم الكثير، إذ سيعودون عبره إلى ذاكرتهم وذكرياتهم. إنّه مشهد قوي، يشحن الفرد، ويعود به إلى ماضيه الأسري.
أشبع مولود آيت ليوتنا فيلمه برمزيات قوية، عدّد معها أسباب الهجرة والعيش في المنفى، كغياب العدالة. هذا يظهر في حوار فلسفي عميق بين يانيس وحميد جرى إلى جانب معصرة زيت الزيتون، خاصة مفهوم العدالة والسببية والقدر. ساق يانيس مثلاً أسباب خلق الإجرام متمثّلة في الواقع، ومعيشة الفرد عامة. الدليل ما حدث لصديقه المتوفي، بعد أنْ صُعق بالكهرباء، عندما حاول مع شريكه سيسو (كسيلة محفوظ) سرقة كوابل نحاسية ذات ضغط عال من أعمدة الكهرباء. لو عاد الزمن بهما إلى الوراء، وعاشا حياتهما في الواقع نفسه، لأعادا الفعلة نفسها. كأنّه يقول إذا كان الواقع مختلفاً، ولديهما فرص عمل وعيش مختلفة، لما جازفا بحياتيهما من أجل مال قليل.
أمثلة أخرى تمنح الحقّ ليانيس وأمثاله في الهجرة: مشهد المقهى، رغم هامشيته، مهمّ جداً. عند دخول يانيس، كان المذيع، في تقديمه نشرة الأخبار بالعربية في تلفاز المقهى، يذكر التالي: "أوقفت مصالح أمن الجزائر جماعة إجرامية تتكوّن من 8 أشخاص، يمارسون نشاطاً ثقافياً تحريضياً". الخبر قمة في العبثية بإطلاق صفة "الإجرام" على مثقفين. كأن مولود آيت ليوتنا يقول إنّ هذا أحد أسباب الهجرة، خاصة أن النشاط الثقافي في الجزائر بات فعلاً إجرامياً يعاقب عليه القانون.
في المجال نفسه، ولخدمة موضوعه الأساسي، استعان المخرج بأغنية تراثية مشهورة للفنان القبائلي الشيخ الحسناوي (1910 ـ 2002)، عنوانها "البيت الأبيض"، التي تُعتبر تميمة كلّ مهاجر، أعاد الفنان أمازيغ توزيعها. تعدّد كلمات الأغنية، الناطقة بالأمازيغية، أسباب الهجرة بدقّة، وتصف نفسية المهاجر وأحزانه، وكيف ترك بلده وبيته وأسرته. أعاد المخرج تمثيل وقائع الأغنية في المشهد الأخير، عندما حمل يانيس حقيبته وخرج من البيت، ثم سار في الشارع الطويل حتى بلغ الطريق، ثم ركوبه سيارة تقلّه إلى المطار. كأنّ كلمات الأغنية تجسّد أحلام يانيس وكوابيسه، وتفاصيل رحلته.

"المنزل يحترق فلنتدفأ" يُبشّر بولادة مخرج متمكّن من أدواته الفنية، ذي مرجعية ورؤية، لاستطاعته صوغ قصة بسيطة للغاية، لكنّها ذات محمول معرفي وجمالي. كما أشرك معه في صنع هذا الجمال أسماء مهمة من أصحاب المواهب، خاصة من أبناء المنطقة، ممن يعرفون الثقافة الأمازيغية ويجيدون لهجتها، وهذا للضرورة الفنية والموضوعية، منهم الممثلان محمد لفقير وكسيلة محفوظ، اللذان شاركا في "حلم" (2021) لعمر بلقسامي، ومهدي رمضاني الذي يملك طريقة متفرّدة في التمثيل، تقدّم الشخصيات ببساطة واضحة، كأنّه لا يبذل جهداً في ذلك، إذ تنعكس موهبته في تجسيد العادي، بعيداً عن الشخصيات المركبة، كما فعل في "طبيعة الحال" (2017) لكريم موساوي، إضافة إلى المصوّر جوان لي بيسكو، الذي أعطى لمحة ساحرة عن المنطقة التي جرت فيها الأحداث، وكيفية عكسه بعض العواطف في صُور ومشاهد، كانعكاس ضوء الشموع على وجوة أفراد أسرة يانيس، خاصة الوالد، الذي كان يتحدث عن الماضي. اتّسعت هذه الإضاءة في انسجام البصري مع النفسي.

المساهمون