"الأبد هو الآن"... تلاعب فني على عتبات الأهرامات

"الأبد هو الآن"... تلاعب فني على عتبات الأهرامات

30 نوفمبر 2022
عمل الفنان التونسي إل سيد (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

"الأبد هو الآن" هو عنوان المعرض الذي ينتهي اليوم تحت سفح أهرامات الجيزة في القاهرة. المعرض تنظمه وتُشرف عليه مؤسسة آرت دو إيجبت، وهي مؤسسة فنية مستقلة ناشئة، بدأت العمل في مصر منذ بضع سنوات، وتترأسها القيمة الفنية نادين عبد الغفار. نظمت "آرت دو إيجبت" أول معارضها عام 2017 في المتحف المصري، ثم توالت عروضها السنوية في أماكن حيوية وتاريخية أخرى داخل القاهرة. "الأبد هو الآن" هو النسخة الثانية من هذه التجربة التي تنظمها المؤسسة تحت العنوان نفسه، في رحاب إحدى أيقونات الحضارة المصرية القديمة.

يحتفي هذا المعرض بالممارسات الفنية المعاصرة، كما تقول المؤسسة المنظمة، ولا شك أن وجود أهرامات الجيزة بحضورها الطاغي في خلفية العمل من شأنه أن يدفع المشاركين إلى التعاطي معها بصرياً، وتطويع أعمالهم ومشاركاتهم الفنية مع هذا الحضور اللافت لمشهد الأهرامات. لهذا السبب، حرص المشاركون على أن تكون لأعمالهم علاقة في مكان العرض، وأن تجمع بين القديم والحديث، أو أن تكون الفكرة المحورية للعمل مُستلهمة من التاريخ مع ربطها بالحاضر.

من النماذج المهمة هنا، على سبيل المثال، عمل الفنان التونسي المقيم في فرنسا، المعروف باسم إل سيد. تعتمد تجربة الأخير البصرية على استلهام الحروف والكتابة العربية. وعمل الفنان المصري أحمد قرعلي على تركيبات معمارية مستلهمة من العمارة الإسلامية، بينما تلاعب الإيطالي إيميليو فيري بالضوء والفراغ. أعمال تجهيزية تتعاطى بصرياً مع هيئة أهرامات الجيزة في الخلفية، كل حسب أسلوبه ورؤيته. شارك في هذه الدورة 11 فناناً وفنانة فقط، بناءً على دعوات خاصة من قبل المؤسسة المنظمة، وترشيح المؤسسات والغاليريات التي يتعاون معها هؤلاء الفنانون.

"حراس الريح" للفنان السعودي محمد الفرج (خالد دسوقي/فرانس برس)

من الواضح بالطبع أن هناك جُهداً كبير قد بذل من الناحية التنظيمية من أجل تحقيق هذا المستوى من العرض، وهو جُهد يواكبه اهتمام إعلامي لافت ورعاية غير مسبوقة من مؤسسات رسمية وخاصة، على رأسها وزارات الثقافة والخارجية والبيئة والآثار، ومكتب يونسكو في القاهرة، هذا خلافاً للشركات الخاصة والحكومية. هذا الاهتمام الاستثنائي بالمعرض كان لافتاً بالطبع، فليس من المعتاد حضور هذا العدد الكبير من المسؤولين لمعرض فني في مصر.

غير أن هذه الرعاية الواسعة التي حظيت بها المؤسسة المنظمة كان من شأنها رسم علامات استفهام كبيرة حول علاقتها المتشعبة والنافذة التي من دونها ما استطاعت تنظيم عرض كبير كهذا، وفي مكان حيوي كمنطقة الأهرامات. فلماذا يقدم كل هذا الدعم لمؤسسة ناشئة دون غيرها من المؤسسات المستقلة التي تعمل في مصر؟

"روح حتحور" لناتالي كلارك (فاضل داوُد/Getty)

للإجابة عن هذا التساؤل، علينا أن ندرك السياق الذي ظهرت فيه مؤسسة "آرت دو إيجبت". فقد واكب ظهور هذه المؤسسة تنامي سياسة رسمية تهدف للسيطرة على مجالات الإبداع والتعبير، كالإنتاج الدرامي والسينما والمسرح والصحافة وغيرها. يرى البعض أن هذه المؤسسة ما هي إلا وسيط غير معلن لتنفيذ هذه السياسة في مجال الفنون البصرية أيضاً، بعد إخفاق المؤسسة الرسمية في تحقيق هذا الهدف. خلال هذه السنوات الأخيرة، تم التضييق على المؤسسات المستقلة المهتمة بالفنون المعاصرة، وإخضاعها لقانون الجمعيات الأهلية الذي قلص الدعم المادي لها على نحو كبير، في الوقت الذي تزايدت فيه المضايقات والزيارات الأمنية المستمرة للغاليريات والمؤسسات المعنية بالفنون، حتى أن بعضها قد أُجبر على الإغلاق، كمؤسسة تاون هاوس مثلاً. وهناك حالات متكررة لمصادرة أعمال فنية أو التحقيق مع القائمين على مؤسسات أخرى حول محتوى العرض لديهم، كما حدث مع مركز الصورة المعاصرة. وفي الوقت الذي كان يتم التضييق فيه على هذه المؤسسات، ظهرت "آرت دو إيجبت" بقوة لتتولى تنظيم معارض كبيرة بالشراكة مع كافة المؤسسات الرسمية، وبدعم غير محدود من الشركات العامة والخاصة.

"التمويه" لزينب الهاشمي (فاضل داوُد/Getty)

إن العمل الفني المعاصر ليس مجرد شكل جمالي أو تناغم بصري، لكنه عمل مفاهيمي في جوهره، يضيء على إشكاليات وقضايا عامة، حتى لو كانت من منطلق ذاتي. لكننا إذا ما تمعنا جيداً في محتوى الأنشطة التي تقدمها "آرت دو إيجبت"، فسندرك أن أغلبها لا يرتبط بالممارسات المعاصرة سوى في الطرح البصري فقط، فهي مجرد أشكال بصرية جميلة في الفضاء العام، لا تكاد تقدم أي أطروحات أو تساؤلات اجتماعية وسياسية مهمة. لعل الهدف المعلن للمعرض المشار إليه هنا قد يفسر هذه الفجوة بين الأعمال المنفذة وطبيعة الممارسات المعاصرة، فالمعرض كما يقول البيان الدعائي لنسخته الأولى هدفه الترويج السياحي في المقام الأول. ولا شك أن التعاطي مع العمل الفني المعاصر كوسيلة دعائية أو ترويجية، على هذا النحو من شأنه الإخلال بطبيعة الأعمال المعاصرة والحط من قيمتها كوسيلة للتعبير والاشتباك مع القضايا الملحة والشائكة. 

"جرم: تحت السماء نفسها" لسبي (فاضل داوُد/Getty)

هذه النظرة المتواضعة للفنون المعاصرة انعكست على سقف التعبير المحدود للأعمال، فمعظمها أعمال تتبنى ظاهرياً مفهوم الممارسات المعاصرة، في حين يتناقض مضمونها مع الطبيعة الناقدة لهذه الممارسات، والمنفتحة كذلك على كافة الرؤى والأفكار. اللافت هنا أن سياسة المؤسسة منذ ظهورها بدت استعلائية في توجهها للجمهور المصري والمجتمع الثقافي المحلي، وهو ما يعكسه اختيارها لاسمها الفرنسي (آرت دو إيجبت) أو حتى لأسماء معارضها التي تبدو كأنها وضعت بلغة أخرى ثم ترجمت على نحو مباشر إلى العربية، وهو ما ينطبق على اسم المعرض الذي نتحدث عنه هنا: "الأبد هو الآن".

المساهمون