أوزو... كلّ هذه المشاعر الدائمة

أوزو... كلّ هذه المشاعر الدائمة

17 يناير 2024
إنّه يفعل ما يجب عليه فعله، من دون ابتكار مُصطنع (إكس)
+ الخط -

نهاية عام 2023 تحثّ على مراجعة واسترجاع. حدث ربما لا يكون الأهمّ، لكنّه أكثر تأثيراً، وأكثر ما يسكن الذاكرة. حدثٌ نفاجأ به، بين وقت وآخر، يعبر أذهاننا من دون موعد. هناك صُوَر تعود، من دون أنْ نسترجعها. تعيش فينا كأنّها تسكننا.

عندما دُعيت إلى "مهرجان طوكيو السينمائي الدولي" (الدورة الـ36، 23 أكتوبر/تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، لم أكن أعرف بعد أنّ هناك مفاجأة مذهلة ستنتظرني. لم يخطر ببالي يوماً أنْ أحتفل بمناسبة مرور 120 عاماً على ولادة فناني المفضّل في بلده وبين ناسه، و60 عاماً على رحيله (في الوقت نفسه)؛ وأنْ أذهب إلى مسرح عتيق، عابق بذكريات، لسماع كلمات مليئة بالحبّ والإعجاب والانبهار به، ومشاهدة فيلمه المُرمّم "صباح الخير" (1959). لم يكن هناك مكان أفضل للتعبير عن المناسبة، بأضوائه الخافتة، وزينة جدرانه الذهبية، ومقاعده الصغيرة. كأنّنا عدنا عقوداً إلى الوراء، لاستعادة كلّ ما تبثّه أفلامه من بهجة وحزن وشجن.

كان هناك جمهور من السينمائيين، بينهم الألماني فيم فندرز، وغير السينمائيين، جاؤوا من كلّ مكان ليعبّروا عن حبّهم للمخرج الياباني ياسوجيرو أوزو (1903 ـ 1963)، ومدى تأثيره في حياتهم وأعمالهم، وما فعلته سينماه فيهم. يحملون له، هم أيضاً، مشاعر لا تنسى، ومكانة لا يحتلّها أحدٌ آخر. لم أكن أعرف أنّه ساحرهم أيضاً. كان سحرني منذ شاهدت أول أفلامه، من دون أنْ أعرف السبب حينها، أو أحاول تحليله. تربّع على العرش من ذاك الوقت، ولا يزال.

أمّا لماذا أوزو مخرج استثنائي، ولماذا هو على حدة بالنسبة إلى اختياراتي، إليكم التالي:

إذا استثنينا كينجي ميزوغوشي (1898 ـ 1958)، الذي يُعتَبر في أسلوبه الغنائي العاطفي أقدم زمنياً، فالاسمان اللذان يُلخّصان السينما اليابانية، بالنسبة إلى معظم هواة السينما، هما أكيرا كوروساوا (1910 ـ 1998) وياسوجيرو أوزو.

يرتبط نجاح كوروساوا في العالم، أساساً، بأفلام الساموراي، التي حقّق فيها النجاح، رغم ممارسته أنواعاً أخرى بالموهبة نفسها. فيلمه "الساموراي السبعة" (1954) أُنجِز في وقت كان فيه الغرب لا يزال يجهل السينما اليابانية، فصار حافزاً لظهور نسخة أميركية جديدة، بنوع جيد، لكنْ أقلّ جودة من النسخة الأصلية: "العظماء السبعة" (1960) لجون ستورجس. باتباع الأسلوب نفسه، أتى آخر نجاحين عظيمين لكوروساوا، "كاجيموشا" (1980) و"ران" (1985)، اللذين يجمعان بين التوهج الشكلي لمشاهد الحرب والمأساة الشكسبيرية. تتأتى شهرة هذا العملاق السينمائي من أنه، بالنسبة إلى كثيرين، ولفترة طويلة، تجسّدت السينما اليابانية من خلاله.

على القطب الآخر، كان هناك نقيضه، أوزو، الذي يُقدّره المنتقدون بالقدر نفسه، وإنْ كان أقلّ شهرة بين الناس في العالم. عند أوزو، لا توجد مواقع تصوير كبيرة، ولا قصص دموية، ولا مشاهد حركة، ولا مكياج، ولا تعابير وجه وجسد منفعلة مستوحاة من المسرح التقليدي. هناك فقط قصص أشخاص عاديين في اليابان المعاصرة، صُوِّرت بصبرٍ وحذرٍ وبطءٍ، عندما يكون البطء مطلوباً. لا صراخ ولا غضب، بل حوارات تكون فيها المشاعر غالباً مخفيّة تحت عادية الكلمات. مشاعر لا يُعبَّر عنها إلا من خلال نصف ابتسامة، أو صمت حزين.

إذا لخّصنا مواضيع أفلام أوزو، ربما نتوقّع شعوراً بملل. في "قصة طوكيو"، أو "رحلة إلى طوكيو" (1953)، يأتي زوجان متقاعدان من مدينة أخرى لرؤية أولادهما في طوكيو، لكنّ هؤلاء مشغولون للغاية بحيث لا يتمكنون من استقبالهما بشكل جيد. فقط زوجة ابنهم (الرائعة سيتسوكو هارا، الممثلة المفضلة لدى أوزو) ستعتني بهما، وترافقهما في المدينة. يُظهر ملصق الفيلم شخصيتين جالستين جنباً إلى جنب، لكنّهما لا ينظران إلى بعضهما البعض. إنهما سيتسوكو هارا الجميلة والرجل العجوز والد زوجها (تشيشو ريو، الممثل المفضل لدى أوزو أيضاً، الذي يظهر في أفلامٍ عدّة له، شاباً في البداية، ثم رجلاً ناضجاً، وأخيراً رجلاً عجوزاً). كلّ المودّة التي تربط الرجل العجوز بالشابة تظلّ غير مُعبَّر عنها، إلا من خلال الجلوس على مسافة قصيرة، والنظر في الاتجاه نفسه، مع تعبير عن وداعة وحزن هادئ على الوجهين.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في "ربيع متأخر" (1949)، الثنائي نفسه في الدورين الرئيسيّين، لكنْ هذه المرة ابنة وأبّ: يعتقد الأبّ أنّ الوقت حان لتتزوّج ابنته، لكنّها متردّدة لخشيتها من أنْ يعاني الوحدة بعد مغادرتها. انتهى بها الأمر باتباع نصيحته، فيجد الرجل العجوز العزلة التي كان يخشاها. في "طعم الساكي" (الفيلم الأخير، 1962)، انفصال أيضاً بين أب وابنته الحبيبة. يمكن إعطاء أمثلة أخرى، مأخوذة من 54 فيلماً أخرجها بين عامي 1927 و1962. السيناريوهات دائماً، أو تقريباً، واضحة ومتكرّرة.

لكنْ، كيف ينجح أوزو في إثارة اهتمامنا بهذه القصص العادية، إلى حدّ يأسر معه المُشاهِد ثانية بعد ثانية؟ بمشاهدة أفلامه، نتعلّم النظر إلى الحياة، المكوّنة من حزن صامت، وأفراح متواضعة، ونظرات بلا كلمات، وكلمات تُقصّر عن تعبيرٍ عمّا نشعر به. فيها، نتعلّم أنْ نرى ونسمع. هذا نقيض تام لأفلامٍ، يصرخ فيها الممثّلون ويتجهّمون، في محاولة لتوضيح أنّهم سعداء أو غير سعداء، ويمثّلون مواقف لا توجد تقريباً في الحياة الواقعية بانفعالاتها. لا تتمثّل واقعية أوزو في اختزال الوجود بمعطيات اجتماعية أو مادية، بل بجعلنا نشعر بحقيقة المشاعر التي تظلّ صامتة، كما هي بشكل عام في الواقع. إذا كانت سينماه مشبعة بحزن معين، فهذا حزن سعيد تقريباً، لأنّه، على عكس ابتذال أفلامٍ عدّة، يجعلنا ندرك أنّ الإنسان يظلّ بشراً، كائناً حساساً قادراً على التفاني من دون انفجارات، كائناً بمشاعر عميقة ودائمة ومكتومة. مشاعر حزن حميمي، لكنّه لا يمنع من التفكير في الآخرين. أوزو لا يخبرنا أنّ الجميع جيدون، لكنّه يجعلنا نشعر أنّه في نقاط ضعفهم وتفاهاتهم، يظلّ البشر بشراً.

مع ذلك، يبقى السؤال الأصعب: كيف يفعل ذلك؟ مؤكّد أنّ إدارة ممثلين لا مثيل لها تؤدّي إلى التعبير عن كافة المشاعر، بأقلّ قدر من الكلمات والإيماءات. لكنّ موهبة الممثلين العظماء جداً، الذين يختارهم ويوجّههم، ليست كافية لتحقيق هذه المعجزة، لو لم يكن هناك فنّ في التصوير، وطريقة وضع الكاميرا، وترتيب الشخصيات والأشياء في الفضاء، والتحرّكات، وغيرها. كلّ شيء مثاليّ، إلى درجة أنّه لا يُمكن رؤية كماله.

أسلوبياً، يُمثّل أوزو، بالنسبة إلى السينما، ما يمثله بالنسبة إلى الأدب كتّاب، يكون أسلوبهم مثالياً، إلى درجة أنّنا لا نرى أين يكمن كمالهم: نلاحظ فقط أنّ الجملة، التي تبدو بسيطة للغاية، لا يُمكن أنْ تكون أفضل مما هي عليه، وستكون أقلّ جودة إذا حرّكنا أدنى كلمة. بالمثل، فإنّ أفلام أوزو لا تحتوي على أبّهة، ولا مؤثرات ضوئية وصوتية كبيرة، ولا تحرّكات كبيرة للكاميرا. فأدنى حركة، وأدنى موقف، وأدنى لون، أشياء صحيحة تماماً. كلّ شيء مدروس بدقّة. كلّ شيء هو بالضبط ما يجب أنْ يكون جيداً، إلى درجة أنّه يستحيل تصوير المشهد بشكل أفضل مما كان عليه، رغم أنّ كلّ شيء يبدو بسيطاً للغاية. لكنّنا لا نتحقّق من هذا الكمال، إلا إذا تفحّصنا الأسلوب، وسعينا إلى تحليله.

بالنسبة إلى متفرّج ليس لديه هذا الاهتمام النقدي، فإنّ أوزو فنان أعظم من أنْ يلفت الانتباه إلى مهارته كفنان: إنّه يفعل ما يجب عليه فعله، من دون ابتكار مُصطنع، والمتفرّج يتابع القصة بكاملها، من دون أنْ ينفصل عنها، ولو للحظة، ومن دون أنْ يفهم بالضبط لِمَ تحرّك فيه سينما أوزو كلّ هذه المشاعر، وإلى هذا الحدّ؟

دلالات

المساهمون