"صح صح" لـ نانسي عجرم... نكهة مارشميلو الإلكترونية التائهة

01 اغسطس 2022
لم تخل أغاني عجرم يوماً من المكّون الإلكتروني (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

منذ أغنية "أخاصمك آه"، التي تضمنها ألبوم "يا سلام" الصادر سنة 2003، من إنتاج جي جي لامارا، وتسويق وتوزيع كل من شركتي "ريلاكس إن" و"ميغا ستار"، مثّل الغنج والدلال السمتين الأساسيتين المميّزتين للأغنية الجماهيرية التي قدمتها إلى العالم العربي، برواج كبير، المغنية اللبنانية نانسي عجرم
لكن عجرم ليست أبداً، كما يحكُم الكثيرون جزافاً، مغنية ذات إمكانات موسيقية متواضعة، تعتمد في أغانيها فقط على الغنج والدلال، أو بتعبير السوق الفنية: "الإغراء" و"الإثارة". إذ إنها في عام 1998، كانت في الخامسة عشرة من عمرها، عندما ربحت جائزة "الطرب الشعبي" ضمن مسابقة بعنوان نجوم المستقبل". ثم إنها لم تخطّ أول مشوارها الفني إلا من خلال بوابة نقابة الفنانين اللبنانيين. وكانت قد درست، في سنوات المراهقة، مبادئ الموسيقى والغناء، قبل أن تُطلق ألبومين، تميّزا بطابع الغناء الطربي الحديث، الأمر الذي يتطلب من المغنّي حدّاً أدنى من نقاء الصوت وسلامة الدوزان. 
أخيراً، بمناسبة عيد الأضحى، وبالغنج والدلال ذاتهما، واللهجة المصرية، العلامة التجارية المميزة لها، شاعت بين الناس أغنية نانسي عجرم الجديدة "صح صح". كتب الكلمات أحمد علاء، ولحّنها مودي سعيد. حقق الفيديو كليب الخاص بالأغنية نسبة مشاهدة فاقت 25 مليون على منصة يوتيوب، وتلك نسبة مُعتبرة، خصوصاً بالنظر إلى نجمة جماهيرية قد مرّ عليها الزمن، ولم تعد اليوم على سابق العهد في التألق، كما كانت أوّلَ الألفية الثالثة.  
الجديد الطارئ على الأغنية الأخيرة إنما هو النكهة الإلكترونية، وهي موضة باتت رائجة اليوم، وصارت تغزو المنتجات الصوتية في كل مكان، وليس في العالم العربي وحده. أما عجرم، فقد اختارت لـ"صح صح" أن تُسجّل في أحد استديوهات مدينة لوس أنجليس الأميركية، وأن يكون مكوّنها الإلكتروني باكورة تعاون عابر، شاركها به فنان الدي جيه الأميركي المعروف كريستوفر كومستوك (Christopher Comstock)، المُلقّب بمارشميلو (Marshmello)، الذي اعتاد أن يُخفي وجهه، بارتداء قناعٍ أسطواني، كان قد ظهر من خلاله في الفيديو كليب، يذكّر برموز العواطف المستخدمة في الكتابة الرقمية، أي ما يُعرف بالإيموجي.


لم تأت المؤثرات الإلكترونية التي أدخلها مارشميلو على أغنية "صح صح" دون مستوى التوقعات من نجم عالمي فحسب، بل إنها تُسمع نشازاً أسلوبيّاً عن كلٍّ من سمتيّ الغنج والدلال عند نانسي عجرم. نشازٌ، يكشف عن عدم نجاعة استيراد التقليعة، كمجرّد استجابة تسويقية إزاء روح العصر، إن هي لم تنسجم حقاً، سواء مع نسيج الأغنية أو المقطوعة، أو طراز المُغنّي وأسلوبه، فتؤول مُقحمة ودخيلة، وتتناهى عبرها الأغنية أشبه بمصْل أغنية، يفصل قوامه ما هو تقليدي وعربي جماهيري عما هو عصري وغربي جماهيري. 
في الواقع إن أغاني نانسي عجرم لم تخل يوماً من المكّون الإلكتروني. كونها أغنية عربية جماهيرية على الطراز المصري، الذي ميّز حقبة تسعينيّات القرن الماضي، قد دخلت عليها الكثير من الإلكترونيات مما شاع آنذاك. بالإضافة إلى أصوات الأورغ المتنوعة، لطالما ميّزها الإيقاع الثابت والمنتظم، الذي يتكون من أصوات أكفّ تصفّق، وقد بُرمِجت حاسوبياً. تُساهِم عيّنة إلكترونية كهذه، تتميّز بالحدة والعلوّ، وبالخفة والرشاقة، في إبراز الطابع الشرقي الشعبي الراقص للأغنية، وبالتالي، توكُد سمتي الغنج والدلال.  
في حين يُسمع النبض القاعي (من قاع) المُظلم والمُنخفض، الذي أدخله مارشميلو على أغنية "صح صح"، صدى لأصوات الغموض والإثارة التحت - أرضية، التي تُميّز موسيقى الهيب هوب والتكنو، وتُحيا بها أجواء المراقص الغربية المعتمة والمريبة. ينتمي هذا النبض إلى أسرة ما يُعرف بآلة الطبل (Drum Machine). وتلك كانت، في البدء، جهازاً مُستقلاً يُركّب الأصوات وفق أنماط يُمكن التلاعب بها وإعادة إنتاجها برمجياً، لتنوب عن عازف الطبول، في ظل ثبات الإيقاع الذي يُميّز أغنية البوب، وعدم الحاجة إلى المواكبة الزمنية والارتجال أثناء الأداء على المسرح، كما هي الحال في ألوان موسيقية أخرى، كالروك والجاز.  
اليوم، صارت المركّبات الصوتية، كالـDrum Machine وشبيهاتها، بمثابة تجهيزات ناعمة، أي عبارة عن موصَلات رقمية (Plug-in) على شكل تطبيقات حاسوبية، تُضمّ إلى البرامج المتنوعة لهندسة الصوت وإنتاجه على الكومبيوتر. لذا، شاع استخدامها، إذ إنها رخيصة الثمن نسبياً، خفيفة الحمولة، يسهل التعلم عليها والتعامل معها على كل من أراد، هاوٍ كان، أم محترفاً.

من هنا، تمكن معالجة تلك التطبيقات، أو حتى إنتاجها كليّاً لتلائم البيئة الصوتية لأي أغنية أو مقطوعة موسيقية. أما الذي حال دون ذلك في أغنية "صح صح"، فلعلّه ضعف الحساسية الثقافية لدى منتج كمارشميلو، وحدود فهمه لخصائص الأغنية الشرقية الراقصة التي تقدمها نانسي عجرم. فَهمٌ، لا يبدر بالدراسة والدراية فحسب، بل يقوم بالحدس الفني إزاء ما يُميّز أسلوباً ما، لوناً ما أو طرازاً ما، على الأخص عندما تختلف الثقافة. 
مثلاً، عندما تختلف الثقافة، يختلف معها أسلوب الرقص. فالإيقاعات الشرقية التي تقوم عليها أغاني نانسي، كالمقسوم على سبيل المثال، تتميّز بالرقة والأنوثة. هي إيقاعات رقص نسائي بالأساس، يلتوي بها الحوض وتهتز لها الخواصر، تنهض بها الأكتاف، وترتفع لها السواعد والأكف؛ فالمقسوم لا يستمد روحه من الضربات النازلة نحو الأسفل، كما هي الحال في رقص التكنو والهيب هوب، وإنما تلك المرتدة نحو الأعلى. لذا، يُسمع النبض المنخفض الذي أدخله مارشميلو على "صح صح"، القاعي والمدوي والثقيل، غريباً عن روح الأغنية.    
كما أن الرقص وإيقاعه قد يختلفان، أو يتنوعان، ضمن الثقافة الواحدة. لذا، نرى أن أشكال النبض الإلكتروني الغربية الجاهزة، والمستقاة من عالم التكنو والهيب هوب، أكثر تواؤماً وانسجاماً مع الدبكة الشامية والكردية. وعليه، ترتب نجاح ما بات يُعرف اليوم بالتكنو الشعبي؛ إذ إن الدبكة رقصة شرقية شعبية، تؤدى ذكوريةً أو مختلطة، تقوم بالأصل على قرع الأرض بالقدم قرعاً إيقاعياً. لذا، تكتسب الضربات النازلة فيها لجهة مواطئ الأقدام قيمة وأهمية. 
المشكلة، إذاً، لا تكمن باستيراد التقنيّات الإلكترونية، أو أيّ تقنية فنية كانت، كما أنها لا تتعلق بالهجونة في الإنتاج الفني، ولا بالتعاون الفني العابر للثقافات، وإنما بمقاربة تكتفي بتركيب طرازين مختلفين من دون المكابدة في سبيل إنتاج طراز جديدٍ فريد يستوعب التقنية الجديدة. فـ"صح صح" أغنية "عجرمية" إن صحّ التعبير، حُدّثت بإضافة الإلكترونيات، في حين كان من الأجدى، فنياً، أن يعمد كل من نانسي عجرم ومارشميلو إلى إنتاج أغنية إلكترونية مشتركة، جديدة بصورة حقيقية.

المساهمون