الراب الأميركي... أغانٍ تَعبُر مسرح الجريمة

الراب الأميركي... أغانٍ تَعبُر مسرح الجريمة

10 ابريل 2019
يُقال إنّ هاسل قُتل لعداوة شخصية (Getty)
+ الخط -
فيما صرّحت شرطة لوس أنجليس في ضوء التحقيقات الجارية، أن لا صلة لحرب العصابات بمقتل مغنّي الراب نيبسي هاسل في اليوم الأخير من شهر مارس/آذار الماضي، وإنما هي محض عداوة شخصية تلك التي دفعت المدّعى عليه إريك هولدر لأن يُطلق النار على هاسبل ورفيقين له، تبقى مع ذلك علاقة موسيقى الراب بالجريمة في أميركا، مدعاة للنظر إلى ما هو ثقافي من نافذة الاجتماعي.
بدءاً بـ سكوت لا روك عام 1987، ثم انتهاءً وليس نهايةً بشخصية هذا المقال، من مشاهير مُغنّي الراب ممن قضوا جرّاء حروب العصابات، أو في أجوائها، تبدو القائمة مثيرة وتحوي (بحسب ويكيبيديا) على أكثر من أربعين اسماً؛ أي متوسط ضحيّتين في كل عام تقريباً، حتى مسرح الجريمة حيث قُتل هاسبل قبل يوم، عاد وشهد عنفاً أسفر عن مقتل أحدهم طعناً وإصابة 19 آخرين.
الراب، كأسلوب غناء، عبارة عن نظم من دون لحن على نبض إيقاع ثابت، وهو أحد فروع ثلاثة لظاهرة فنية تُدعى الهيب -هوب، تشمل - إلى جانب الراب/الأدبي - الفرع البصري "الغرافيتي"؛ الرسم على الجدران العامة، والحركي؛ رقص البريك دانس. يُمثّل الهيب هوب حالة تحت - ثقافية؛ كونه ثقافة الباطن إزاء الظاهر من المُجتمع الرأسمالي المُعاصر، والمُهمّش إزاء البارز منه والمُنمّق.
إنها "صعلكة ما بعد الحداثة" التي نشأت مطلع ثمانينيّات القرن المنصرم. صرخة المنبوذين خارج حركة المُجتمع وسيرورة بُناه الاقتصادية والثقافية الجديدة إبان الليبرالية المالية واقتصاد السوق. لم يقتصر تأثيرها على الداخل الأميركي، وإنما تجاوزه بمختلف مظاهره من غناء وأداء وأزياء إلى حيثما تهمّش الناس، كانوا مغاربة الجيل الثاني في الضواحي الباريسية أم أتراكاً في المدن الألمانية.



للراب جذور أعمق تمتد إلى إرث العبودية؛ إذ يُحكى أن تُجار الرق الأوروبيين كانوا يبيعون العبيد الأفارقة الأصحّاء فرادى، أما العليل منهم والمُعوق والمشوّه فكانوا يباعون جملةً بالدزّينة، فيُحشر كل 12 "عبداً" في قفص على متن سفينة لتُبحر بهم إلى أميركا. خلال الرحلة الطويلة ابتدع عبيد "الزولو" لوناً من التسلية يقوم على الهجاء المُغنّى بأسلوب المُبارزة عُرف بـ "الدزّينة".
من تلك الخلفية التاريخية، ينطلق الراب كفنّ غناء يستند بالأصل إلى محاكاة آداب القتال، لجهة طبيعة الأفارقة الزولو الحربية من ناحية، ولكونه، أيضاً، لون هجاء شعري لطالما ارتبط بالمبارزة والفروسية، يبدو أثره على لغة جسد مُغنّي الراب حين يؤدون الأغاني ويرقصون، كما يتجسّد في أسلوب حياتهم التي تتداخل، دونما تعميم بالضرورة، بمظاهر حياة العنف والجريمة.
اقتصادياً، العصابة مصدر رزق صغار أعضائها وإثراء كبارهم ضمن تجمّعات سكانية حرمها النظام العام، نتيجة عقود من الفصل العنصري والاجتماعي، من ميّزات التحصيل العلمي والتأهيل المهني. بإسقاطٍ ثقافي، تبدو العصابة كما لو أنها تقوم مقام القبيلة في المجتمعات الأفرو-أميركية التي تشعر أن المؤسسات العامة من البُنى الاجتماعية لا تُمثلّها وإنما تستثنيها وتستغني عنها.
من منطلق هذا التمثّل الثقافي، يبرز مُغنّي الراب كشاعر القبيلة/العصابة؛ فهو فارس بالضرورة يُغير حين تُغير قبيلته ويذود عنها وعن رزقها وديارها، كما أنه رصيدُ نفوذٍ فنّي وإعلامي لعصابته/قبيلته، خصوصاً إن هو حقق شهرة تتجاوز الحيّ، إضافةً إلى كونه يبقى، بطبيعة الحال الاقتصادية والاجتماعية، نبتةَ الأرض العنفية تلك، يعيش فيها وبها كما يتحدّث باسمها ويعبّر عنها.
وُلد الراب من جماع الحرمان والفاقة، واحداً من جملة آثار ونتائج سياسات التقشّف التي استهدفت مرافق السود الخدمية والتربوية مع مجيء إدارة ريغان الجمهورية المُحافظة إلى السلطة في عام 1981 والتي بدت في قسوتها وتبلّيها أشبه بانقلاب ناعم وصامت على مُخرجات عقدين من نشاط حركات الحقوق المدنية للأفرو-أميركيين على طريق المساواة النسبية، أقلّها في التربية والتعليم.
بعد أن احتوت مدارس الفقراء أيام الستينيّات والسبعينيات على مختلف الآلات من بيانو وطبول وأبواق نفخ نُحاسية، تلك البيئة السمعية التي أسهمت بالطفرة النوعية لموسيقى الجاز، باتت في العقد الثامن تعاني شُحاً، ما حذا بالشبيبة إلى الاستعاضة عن غياب الآلات بلعب الأسطوانات على موائد التدوير، في ما يعرف بالـ DJ، ومن ثم نظم قصائد الراب على الإيقاعات الصادرة عنها.


الشارع فالسجن ثم الشارع من جديد، هي دورة الحياة في أحياء الفقر والبطالة الأميركية، ليس من تربية إلا على بيع المخدّرات ولا تعليم سوى على حمل السلاح والضغط على زناده. ليس ثمة من طريق نحو عيش رغيد سوى صعود هرم العضوية في العصابة/القبيلة من بائع مخدّرات جوّال يقف عند زاوية، إلى شيخ باعة يركب سيارة فارهة، هذا وذاك، أو الموت بطعنة سكين أو طلقة رصاص.
في ظل غياب الأفق، تبدو حتى مواضيع أغاني الراب المصورة أشبه بمكبّ ثقافي لنمط الحياة الاستهلاكية في مجتمع اقتصاد السوق. ففيما تصوّر أغاني البوب والروك للنجوم البيض الحب والنجاح والسلام، يكاد يصوّر جلّ أغاني الراب السوداء مظاهر الثراء الفارغ من استعراض للسيارات الحديثة وتقلّد الحليّ الثمينة، كما تُسلّع المرأة روحاً وجسداً فتكاد لا
تظهر إلا راقصة إغراء أو غانية.
 ذلك الفصل العُنصري الثقافي الخفي يجعل من أغنية الراب للأميركي الأسود سجناً بقدر ما يجعلها مخرجاً ومُتنفسّاً، فحين ينخرط ضحايا التنميط عادةً في إعادة إنتاج صورتهم النمطية والتماهي بها، يُقلّص ذلك من حمولة الحُلم في الأغنية إلى سردية الغنى والفقر بأية وسيلة، كما يؤطر الرسالة السياسية بالمطلبية المحليّة للحيّ والشارع، ولا يُعفي أيّاً كان من الموت اغتيالاً.. حتى الفنان.

المساهمون