شارل أزنافور: الغناء حتى الرّمق الأخير

شارل أزنافور: الغناء حتى الرّمق الأخير

01 أكتوبر 2018
لطالما صرّح بخوفه من الوقوف أمام الجمهور (فرانس برس)
+ الخط -
حتى آخر لحظة من حياته، لم يتوقّف شارل أزنافور (1924 - 2018) عن السفر وإحياء الحفلات الغنائية. لم يتوقف إلا بعد أن تعرّضت ذراعه لكسر مُضاعف، وهو ما أجبر طبيبه الشخصي على اتخاذ قرار عدم مشاركته في أيّ حفل طوال الصيف. وكان عليه أن يقيم حفلات في لندن وإسبانيا وألمانيا وكرواتيا، قبل أن يذهب إلى سيدني وطوكيو وأوساكا وكييف وبلجيكا، وبعدها سيعود إلى باريس لإقامة حفلات أُخرى. لكنه رحل أمس، عن 94 عاماً، في منزله في منطقة ألبيل في جنوب فرنسا.
هكذا، يبدو كيف أن صاحب hier encore قد عاش حياته حتى الرمق الأخير، ولم يدّخر لحظة واحدة طوال حياته الفنية. بدأ يغني منذ أن كان في العشرين من عمره. ومع ذلك، يقول: "لقد أنجزت مشاريع كبيرة لم تتحقق وبقت في الهواء، لقد أضعت الكثير من الوقت". كما كان يُعلن على الدوام: "سأبقى أغني حتى أصل إلى سن المائة من حياتي"، وهو الذي أنجز أكثر من ألف أغنية وأنتج مئة ألبوم غنائي وباع أكثر من مئة مليون أسطوانة، هذا غير الأفلام السينمائية التي اشترك فيها أو قام ببطولتها. من هنا يمكن الشعور بحالة الشغف الكبيرة التي كانت تحيط بصاحب La bohème، ولعل مصدرها حالة المنفى الداخلية التي كانت تحيط به بل وتجعله منجذباً لتلك الحالات الإنسانية التي تشبه حالاته. هل يعود هذا لكونه من أصل أرمني، وبحسب الحالة الأرمنية الغالبة والمُحاطة بحالة النفي الدائم وعدم الشعور بالأمان في أي قطعة من الأرض كانوا عليها. لكن، لا تبدو هذه حالة أزنافور، أو شاهنور فاريناج أزنافوريان، بحسب اسمه الأرمني الأصلي، على نحو واضح؛ فعلى الرغم من شهرته الفرنسية وحضوره الفرنسي الكبير في الحياة الغنائية واليومية وحتى السياسية، إلا أنه كان يغني بأكثر من لغة، ومنها الأرمنية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية. ولم يكن هذا الأمر عبثياً أو مجرد مصادفة بحكم الحيوات الكثيرة التي قضاها أزنافور، لقد تعلّم لغات كثيرة فعلاً، لكن مسألة تعمده الغناء بأكثر من لغة تأتي بسبب إصراره على "إمتاع الكثير من الناس الذين لا يتقنون اللغة الفرنسية ويأتون إلى حفلاتي كي يسمعوني". بل وأكثر من هذا، في مؤتمر صحافي أقامه قبل حفلته الأخيرة في لبنان العام الماضي، قال أزنافور: "أتمنى تقديم أغنية مشتركة مع فيروز، أستطيع تعلّم اللغة العربية والغناء بها، هذه أُمنية". وأضاف في المؤتمر نفسه أنه لا يستطيع أن يكون شخصاً طائفياً، وأن يكتفي بكونه أرمنياً: "لن أستطيع أن أغني بالأرمنية فقط وأن أتناول الطعام الأرمني وأنام كأرمني وأستيقظ أرمنياً، بل على العكس يجب الانفتاح على العالم وعلى الديانات".
من هنا، يمكن النظر مرة أُخرى إلى كيفية استفادة هذا الأرمني الأصيل من حالة المنفى "الافتراضية" التي كان يعيشها عبر الحيوات الكثيرة التي خاضها وحجم الاشتغالات التي أحاطت به. مع ذلك، لا ننسى هنا بأنه، على الرغم من تجاوزه حالة المنفى الداخلي أو عُقدة الاضطهاد التي عانى منها كثير من المهاجرين وبقوا غير مستقرين على هويّة محدّدة، إلا أن أزنافور كان أكثر قرباً من أولئك الناس الذين يشبهونه، وإن كانوا من أصل فرنسي. لنأخذ مثال علاقته وبداية شغله مع الأسطورة، المطربة الفرنسية إديت بياف، التي بدأت حياتها من الشارع، متشردة وضائعة، ومن بعد ذلك وصلت إلى مرحلة الغناء في الملاهي والحانات، وتالياً بدأت رحلتها مع المجد. شارل أزنافور كان يشبهها هنا في حالة واحدة، بأنه بدأ حياته بالغناء في الملاهي والحانات، حين كان صديقه بيير روش يعزف على البيانو وشارل يُغني. هكذا بدأت القصة وارتفع صوتها إلى غاية وصولها إلى إديت بياف التي، بحسها الفني، طلبت منهم الحضور إليها والذهاب في رحلة غنائية طويلة، بعد الحرب العالمية الثانية؛ فذهبوا معاً إلى أميركا وكندا، وهناك ارتفع صوت صاحب Emmenez-Moi وبدأت رحلة مجده الطويلة. ولم يتجاهل أزنافور بياف أبداً، حتى بعد موتها لم يتوقف في حفلاته عن إعادة أشهر أغانيها. كان يحمل لها في داخله شكراً كبيراً وقال عنها: "هي الفنّانة التي أثرت وأغنت حياتي".



لكن اللافت في حالة هذا الأرمني الكبير بأنه كان، بحسب حوارات كثيرة أجراها، يخاف الوقوف أمام الجمهور، وقد احتاج إلى وقت كبير كي ينجح في ذلك حين اقتنع على نحو أكيد بأن هذا الجمهور قد أتى فعلاً كي يستمع إليه. لعلّها واحدة من حالات الرهاب التي قد تقبض على رقبة الفنّان حين يبدأ حياته وهو يشترك في حفلات مع فنانين كبار ويقوم بتحريك الجمهور الحاضر وتسخينه لحين قدوم الفنانين الكبار؛ أي أنه كان يقوم بما يشبه دور الكومبارس. لكن ذلك لم يُحدث أي أثر في سياق حياته التالية. لعلّها مسألة تشبه تخلّصه من حالة المنفيّ الأبدي أو المُهاجر غير المقيم في أي مكان.
في تعليق على موقع يوتيوب وتحت أغنية La mama لشارل أزنافور كتب أحد المتابعين: "أنا يتيم. فقدت أمي وأنا في الحادية عشرة من عُمري، وحين أسمع هذه الأغنية وأنا الآن في السادسة والأربعين من عُمري، أبكي مجدداً، لقد صارت حياتي فراغاً تاماً".
مع السلامة شارل أزنافور.




دلالات

المساهمون