الموازنات تحوّل المواطن العربي لمجرد رقم في كتاب غامض

الموازنات تحوّل المواطن العربي لمجرد رقم في كتاب غامض

10 مارس 2014
البرلمان اللبناني لم يقر موازنة البلاد منذ 9 سنوات
+ الخط -
"أين تذهب أموالنا؟"، "أنفقت الدولة على هذا المشروع السيىء ملايين الدولارات"، "هذا الاستثمار العام يتضمن صفقة لأحد المتنفذين، أي أصحاب النفوذ، إذ إن فواتير تنفيذه مضخّمة"، "لماذا ندفع ضرائب إضافية ولا نحصل بالمقابل على خدمات عامة إضافية؟".
عبارات وأسئلة كثيرة يطرحها المواطن العربي، يومياً، وتشكك في آلية إنفاق الأموال العامة من قبل الحكومات ومصير الإيرادات المحصّلة عبر الضرائب. 
معظم الأسئلة والاستفسارات لا تجد سبيلها إلى الإجابة الشافية. والسبب واضح: إخفاء المعلومات التفصيلية من الموازنات العامة في معظم الدول العربية.
الأكيد، أن معظم المواطنين في الدول العربية لا يعتبرون الموازنة العامة نصّاً أساسياً في حياتهم اليومية.
لا يضغطون بشكل فعلي على الحكومات للإفصاح عن مصير أموالهم العامة، ولا يعتبرون الموازنة أساسية لتحسين ظروف حياتهم.
ويعود هذا المنطق السائد إلى عمليات تجهيل عامة قامت بها السلطات السياسية في البلدان العربية، جاعلة من الاقتصاد مادة ثانوية في مقابل الاصطفافات الشعبية السياسية.
بذلك، يتحوّل المواطن العربي إلى آلة دفع ضرائب للحكومات، من دون أن يسأل عن مصير أمواله وطريقة إنفاقها. 
الموازنة للمواطن أولاً
في التعريف، الميزانية العامة للدولة هي عبارة عن بيان تفصيلي يوضح للمواطنين وللبرلمانات وللأجهزة الرقابية وضع المالية العامة للدولة خلال العام التالي لنشر الموازنة. 
وهذا البيان التفصيلي، يجب أن يتضمن تقدير إيرادات الدولة، والقطاعات التي ستقوم بتمويل النفقات. وأيضاً، تقدير نفقات الدولة والأنشطة التي سيتم دعمها عبر هذه النفقات. 
وأخيراً، تحدد الموازنة العامة المستفيدين من عملية إعادة توزيع الثروة، من خلال جمع الإيرادات المالية (التي تأتي بمعظمها من الضرائب) وتوجيهها عبر نفقات واضحة إلى قطاعات وفئات اجتماعية وخدمات عامة تحقق الاستقرار الاقتصادي والنقدي والمالي والاجتماعي خلال العام المقبل.
ويجب على كل مواطن الاطلاع على تفاصيل الموازنة العامة ليعرف مصير ضرائبه، ومصير ثروة بلاده، ومكامن القوة والخلل في الاستراتيجيات المالية للحكومات، ما يودي بديهياً إلى مساءلة الحكومات ومحاسبتها من قبل المواطنين من جهة ومن قبل الأجهزة الرقابية المالية من جهة أخرى.
الدول العربية تخفي المعلومات
هذا من الناحية النظرية، إلا أن الواقع العربي هو في مكان آخر تماماً. إذ إن غالبية الدول العربية لا تفصح عن تفاصيل موازناتها العامة، بل إن بعض الدول لا تفصح عن اتجاهات الإنفاق العام ومكامن تحصيل الإيرادات بتاتاً.
لعل المؤشرات الأكثر أهمية في هذا السياق، هو مؤشر الموازنة المفتوحة الذي يصدر عن "منظمة الشفافية الدولية" كل عامين.
التقرير الأخير للمؤشر، يبيّن أن معظم الدول العربية لا تعلن تفاصيل موازناتها للجمهور، أو تضع في موازناتها معلومات ناقصة.
ويقسم المؤشر دول العالم الى 5 فئات. فئة تقدم معلومات شاملة في موازنتها للجمهور، وثانية تقدم معلومات هامة، وثالثة تقدم بعض المعلومات، ورابعة تقدم الحد الأدنى من المعلومات، وخامسة لا تقدم معلومات أو تقدم معلومات بسيطة جداً لجمهورها.
على أية حال، يظهر المؤشر أن الدول العربية بمعظمها تتمركز في الفئة الأخيرة، أي فئة الدول التي تحجب معلومات موازناتها عن مواطنيها. إذ من أصل 100 نقطة حصلت مصر على 13 نقطة فقط في ما يتعلق بشفافية موازنتها، بعدما كانت قد حققت 49 نقطة في مؤشر العام 2010. وتبعتها الجزائر بـ12 نقطة، وتونس واليمن بـ11 نقطة، والعراق بـ4 نقاط، وصولاً الى السعودية نقطة واحدة. 
أما الدول العربية التي تقدم الحد الأدنى من المعلومات، فهي لبنان بـ33 نقطة من أصل 100 نقطة للشفافية، والمغرب 38 نقطة، في حين تحصل الأردن على 57 نقطة في ما يتعلق بشفافية موازنتها، وتصنّف ضمن الدول التي تقدم بعض المعلومات لمواطنيها.

مصر: هبوط مريع
يعتبر التراجع الضخم في شفافية الموازنة المصرية من المؤشرات المخيفة. إذ لا تتوافر في بلاد النيل رقابة رسمية فاعلة ويغيب الناس عن المساءلة الجدية في ما يتعلق بالقضايا المالية.
وتشرح مبادرة "تضامن" المصرية أنه "من عام 2006 إلى عام 2010، حققت مصر أكبر تقدم في "شفافية الموازنة" في الإقليم.
وأحد العوامل المهمة التى ساعدت مصر على تحسين سجلها فى هذا الصدد، كان نشر أول "موازنة مواطن" في مصر في عام 2010، وكانت مصر أول دولة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقدم على تلك الخطوة.
ووفقاً لتقرير الموازنة المفتوحة لعام 2010 بخصوص مصر، فإن "موازنة المواطن" هي شرح غير تقني لموازنة الحكومة "يستهدف مساعدة الجمهور ـ بالذات غير المتخصصين فى المالية العامة ـ على فهم خطط الحكومة".
بعدها بقليل سار لبنان وأفغانستان والمغرب على المنوال نفسه ونشرت "ميزانيات مواطن" خاصة بها.
إلا أن ما تمتدحه حملة  "تضامن" ليس سوى جزء قليل من واجب الشفافية الذي يجب أن تقوم به الحكومات، حيث إن شرح الموازنة لا يعني أن الموازنة شاملة لكل بنود الإنفاق، ولا أنها عادلة في توزيع الثروة الوطنية، ولا هادفة لتحسين ظروف المواطن في مقابل الضرائب التي يدفعها.
وبالتالي فان نشر "موازنة المواطن" لا يعني وقف الهدر والفساد، ولا تعزيز الرقابة والمساءلة، بفعل ضعف الأجهزة الرقابية من جهة، وفرض قوانين سياسية تمنع المساءلة، إضافة طبعاً إلى الشبكة العنكبوتية السلطوية التي تنزع عن البرلمانات قدرتها الرقابية. 
إذ من الطبيعي أن تنتهي عملية إخفاء المعلومات الكاملة في ما يتعلق بالإنفاق العام، إلى إعلان سلسلة من الفضائح المالية التي ارتُكبت خلال حكم الرئيس المصري حسني مبارك، من خلال الرئيس وأعوانه وعدد من رجال الأعمال المحيطين به. 
إلا أن الغريب أنه بعد الثورة المصرية، تراجع أداء الشفافية عن مستواه المنخفض أصلاً، بحيث سجلت مصر بدلاً من 49 نقطة أيام مبارك، حوالى 13 نقطة في سلّم الشفافية في العام 2012. ولم يتم نشر العديد من وثائق الموازنة، لا بل نشر المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال العام الماضي الموازنة العامة من دون استشارة أية جهة أخرى.
المغرب: البنك الدولي يناور
الواقع في الدول العربية ينطبق كذلك على المملكة المغربية. فقد أعلن الدستور الجديد للمملكة في العام 2011 الالتزام بمبادئ الإفصاح والشفافية والمساءلة.
ويقول البنك الدولي، في صفحته الإلكترونية المتعلقة بالمملكة المغربية، إن "الإفصاح عن الموازنة العامة هو أحد ركائز البرنامج الحالي لإصلاح نظام الحكم". 
ويلفت البنك الدولي إلى أن المغرب نشر ما يُعرف بـ"موازنة المواطن"، إضافة الى نشر مؤشر الموازنة المعلنة، ويعتبر البنك الدولي أن هذه الموارد المعلوماتية تمثّل جزءاً من إنجازاته في تحسين واقع الشفافية في المغرب.
إلا أن الباحث المغربي في مجال المالية العامة، عبد النبي أضريف، أكد خلال مؤتمر عقد في مايو/ أيار الماضي بالعاصمة الرباط، على أن المغرب "لا يتيح لمواطنيه المعلومات المرتبطة بالمالية العمومية".
ويشرح أن المغرب لم ينشر سوى عدد محدود من الوثائق المتعلقة بالموازنة، بل إن الوثائق التي نشرها، أي "موازنة المواطن" و"مؤشر الموازنة" وغيرها، صدرت بعد إقرار الموازنة، في حين لم يتم نشر أي تقارير تتعلق بالتدقيق في مواد الموازنة. وبالتالي يغيب المواطن عن مناقشة الموازنات العامة لبلاده، ولا يطّلع على أي تقارير تدقيقية من الجهات الرقابية على الإنفاق. 
العراق: كارثة الإنفاق 
يعتبر العراق من بين أسوأ الدول العربية من ناحية الشفافية في موازنته العامة، وخصوصاً في ما يتعلق بالموارد النفطية. وعلى الرغم من أن الدستور العراقي ينص على نشر كافة المعلومات المتعلقة بالموازنة على موقع وزارة المالية العراقية، إلا أن الوزراء لا يلتزمون بالدستور. 
وتلفت التقارير المتعلقة بالعراق إلى أن واقع الشفافية في إنفاق المال العام كارثي، وإمكانية وصول المواطنين الى مصادر المعلومات حول آلية التصرّف بالموارد النفطية معدومة. 
ومن هنا، ليس من المستغرب إطلاقاً أن يتم نشر الفضائح المالية والصفقات التي يتورط بها المسؤولون عن المال العام في عدد كبير من المواقع الإخبارية العالمية. وليس من المستغرب أن يكون مصير الموارد النفطية العراقية عرضة للشكوك في ظل غياب أي معلومات عن آلية استثمار هذه الموارد. 
اليمن: محاولات غير مجدية
اعتبر عدد من المحللين الماليين أن موازنة العام 2013 في اليمن هي الأسوأ في تاريخ الحكومات اليمينة. وقد ضجت وسائل الاعلام اليمنية بتقارير تؤكد أن موازنة العام الماضي هي ذاتها موازنات اليمن في الأعوام السابقة التي يتم الإنفاق من خارج بنودها. ليس هذا فحسب، بل لا يتم الالتزام بحجم الإنفاق والإيرادات المدرجة في بنود الموازنة. 
فموازنة العام 2012 مثلاً، لم يتم تطبيقها خصوصاً في ما يتعلق بحقوق المواطنين من زيادات على الرواتب ومخصصات اجتماعية وانفاق على الخدمات العامة. إذ أصبحت عملية الإنفاق بيد وزير المال وحده، في حين أن عملية جمع الإيرادات تطال جميع المواطنين من دون أن يحصلوا على خدمات مقابلة. 
لبنان بلا موازنة منذ 2006
لعل أبرز مثال على المصائب المالية في العالم العربي هو لبنان. فهذا البلد الصغير يعيش بلا موازنة عامة منذ العام 2006. وتنفق الحكومات المتعاقبة منذ 9 سنوات بطريقة عشوائية، في مخالفة صريحة للدستور والقوانين المحاسبية.
وبطبيعة الحال، ومع فقدان أي نصوص تحصر حجم الإنفاق الكلي وحجم الإيرادات الكلية، تغيب كل أنواع المحاسبة على آليات الإنفاق. خصوصاً أن البرلمان لا ينعقد منذ أكثر من عام، في حين أن الخلافات حول فضائح مالية مرتكبة في السنوات الماضية أدت الى عدم إقرار مجلس النواب الموازنات السابقة قبل إيجاد حل للمشكلات المحاسبية التي تعصف بالحسابات المالية للدولة اللبنانية.

المساهمون