من يقف وراء قفزات أسعار الذهب؟

13 مايو 2024
متجر للذهب في مقاطعة جيانغسو في الصين، 14 فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- التوترات في غزة والتحركات الإسرائيلية، إلى جانب توقعات سياسة الفائدة الأمريكية، تؤثر بشكل كبير على أسعار الذهب، مع ارتفاعات تجاوزت 2300 دولار للأونصة نتيجة للأزمات والسياسات النقدية.
- الطلب المتزايد على الذهب من قبل البنوك المركزية والاستثمارية يعكس توقعات بمزيد من الارتفاع في أسعاره، مدعوماً بتقارير تنبؤية من كبرى البنوك العالمية بوصوله لمستويات قياسية بحلول نهاية 2024.
- الأوضاع الجيوسياسية، خاصة في الشرق الأوسط، والتوقعات الاقتصادية العالمية تلعب دوراً رئيسياً في تحديد اتجاهات أسعار الذهب، مما يجعله استثماراً مفضلاً في ظل الركود والتضخم المتوقعين.

لا يزال قطاع غزة، على صغر مساحته، يُلقي بظلاله على الأسواق العالمية بأسرها. فتلك الصواريخ الصغيرة التي تُطلَق على الكيان المحتل تؤثّر بشاشات الأسعار في لندن ونيويورك وطوكيو وسيدني، ولا يزال الوسطاء الماليون والبنوك الاستثمارية يتسمّرون أمام شاشات التلفاز لمراقبة الأوضاع في غزة وبناء الخطط المستقبلية وفقاً لما قد يجري.

منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ارتفع سعر أونصة الذهب بنسبة 30% من 1856 إلى 2430 دولاراً، ولا يزال السعر يحوم حول 2350 دولاراً، وهو ما يشير إلى تحولات جوهرية في السوق لا بد من الوقوف عليها. وهنا سأحاول تحليل العوامل الأساسية التي أدت إلى تحليق سعر الذهب، والنظر في توقعات البنوك الاستثمارية على المدى المنظور.

بدايةً، يصبح الذهب ملاذاً آمناً تقليدياً يجد رواجاً متزايداً في أوقات الأزمات والحروب. وعليه، تسهم الاضطرابات في الشرق الأوسط، على اعتبارها منطقة ساخنة بفضل تحكّمها بالعديد من الثروات وطرق التجارة العالمية، والتوترات بين الدول، وعدم الاستقرار الاقتصادي، تسهم كلها في زيادة الطلب على المعدن الأصفر، وتُبقي حالة التوجس والقلق لدى المستثمرين والأسواق العامل الأبرز لدفعهم نحو التحوّط بالذهب وسيلةً لتأمين أصولهم المالية.

تابع المستثمرون آخر التطورات في غزة، مترقّبين ردّ إسرائيل على مقترح وقف إطلاق النار الذي قبلته حركة حماس لإنهاء الحرب، ومع رفض الاحتلال للمقترح، وبدء العملية العسكرية في رفح، وسيطرة إسرائيل على المعبر قبالة الحدود المصرية، زادت حالة عدم اليقين والغموض في الأسواق، فارتفعت أسعار الذهب فوق 2300 دولار، وتزامنت هذه الأخبار مع إشارات متباينة من البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أنّ الاقتصاد الأميركي يتجه نحو "هبوط ناعم"، وإمكانية البدء بخفض أسعار الفائدة خلال وقت لاحق من العام الحالي. وعادة ما تترك أسعار الفائدة المرتفعة آثاراً سلبية على أسعار الذهب، على اعتبار أن المعدن الأصفر لا يدرّ فائدة مقارنة بورقة الدولار، حيث تميل أسعار الفائدة المنخفضة بشكل عام إلى تعزيز جاذبية الذهب لأنه لا يقدّم عوائد.

وكان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم بأول، في آخر تصريحاته، قد أشار إلى أنّ من غير المرجَّح أن تكون الخطوة المقبلة رفع معدلات الفائدة. ولفت رئيس البنك الفيدرالي في نيويورك، جون وليامز، إلى أنه في مرحلة ما غير محددة سيخفض الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة، والاقتصاد يتحرك بشكل عام نحو توازن أفضل. وكتب بنك غولدمان ساكس الاستثماري في مذكرة: "ما زلنا نتوقع خفضين لأسعار الفائدة هذا العام، في يوليو/ تموز ونوفمبر/ تشرين الثاني".

ويتوقع المتداولون بنسبة 64% خفض سعر الفائدة على الدولار في شهر سبتمبر/ أيلول القادم، وتشير أفضل التوقعات إلى خفض واحد لمعدلات الفائدة حتى نهاية عام 2024. ومع ذلك، ليس هناك شيء مضمون في الأسواق، فإذا حدث ارتفاع حاد في التضخم، أو صدرت بيانات تشير إلى ارتفاع في معدل التضخم خلال الأسابيع المقبلة، فإن ذلك سيُحبط أي فكرة للفيدرالي الأميركي حيال قدرته على خفض أسعار الفائدة.

وعلى الرغم من هذه المؤشرات حول سعر الفائدة، لا تزال غزة هي المحدد الرئيسي لمسار سعر الذهب. فكلما زادت التوترات الجيوسياسية، زاد الطلب على المعدن النفيس بالمقابل، كذلك قد يؤثر العدوان في أسعار النفط العالمية، ما يزيد بدوره معدلات التضخم حول العالم، وبالتالي يزيد الطلب على الذهب كتحوّط ضد التضخم، بالإضافة إلى الأثر السلبي على قيمة العملات، خصوصاً الدولار الذي يُعتبَر العملة الرئيسية لتداول الذهب، وبالتالي ستؤدي تقلبات الدولار إلى تغيرات في أسعار الذهب.

وتذهب بعض النظريات إلى أنّ الذهب أو عملة البيتكوين الرقمية سيكونان الوريث الحقيقي للدولار إن حدث شيء للعملة الأميركية، ومع كل هزّة للدولار تصبح هذه السردية أكثر رواجاً في العالم. ومع ذلك، لا يبدو أن الورقة الخضراء مقبلة على انهيار أمام ما تتمتع به أميركا من سيادة القانون، واستقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي، والاستقرار المالي وعدم معاناتها من التضخم المفرط، كلها ميزات تجعل من الدولار مخزناً جذّاباً للقيمة يتفوق على بقية الأصول المالية الأخرى.

السؤال هنا: من يقف وراء تحريك سعر الذهب للأعلى خلال الشهور الماضية؟ هل هي سلبية الدولار وانخفاض معدلات الفائدة المتوقعة، أم المستثمرون الغربيون والصناديق السيادية والخوارزميات الرياضية، أم البنوك المركزية حول العالم؟

لا أحد يعرف الإجابة الدقيقة، ولكن أعتقد أن الإجابة تكمن في كل ما ذُكر أعلاه. فارتفاع أسعار الذهب يعكس توقعات البنوك المركزية والاستثمارية لعام 2024 وما بعده حول تماسك أسعار الذهب فوق 2000 دولار، حيث تؤدي التقارير الصادرة عن البنوك الاستثمارية دوراً كبيراً في تشكيل توقعات السوق. هذه التقارير، التي غالباً ما تحلل الأوضاع الاقتصادية العالمية وتأثيراتها في الذهب، تشير في معظمها إلى توقع استمرار الصعود في أسعار المعدن الأصفر. فقد ارتفع الطلب العالمي على الذهب بنحو 3% في الربع الأول من 2024، مسجِّلاً أقوى طلب في أيِّ ربع أول منذ عام 2016، بدعم نشاط التعاملات خارج البورصة، ورفعت البنوك المركزية حول العالم حيازتها للذهب في شهر يناير/ كانون الثاني 2024 بنحو 39 طناً، وحلّ البنك المركزي التركي في المرتبة الأولى بين أكثر المشترين. ووفقاً للبيانات الصادرة نهاية شهر إبريل/ نيسان عن مجلس الذهب العالمي، بلغ إجمالي الطلب العالمي على الذهب مستويات 1238 طناً في الربع الأول من العام الحالي.

وأضافت البنوك المركزية حول العالم التي أقبلت على شراء الذهب في العامين 2022 و2023 نحو 290 طناً إلى احتياطاتها، بزيادة 1% على أساس سنوي، وبزيادة 69% على المتوسط الفصلي لخمس سنوات. وارتفع الاستثمار في السبائك والعملات الذهبية، بنحو 3% إلى 312 طناً في الربع الأول بدعم من ارتفاع الطلب على سبائك الذهب الصغيرة في آسيا. وفي الصين، قفز الطلب على السبائك والعملات الذهبية 68% إلى 110 أطنان، وهو الأقوى في أكثر من سبعة أعوام.

وتوقع Bank of America أن تصل أسعار الذهب إلى 2400 دولار للأونصة بنهاية 2024، بينما توقع بنك UBS أن تصل الأسعار إلى 2200 دولار، أما بنك Citi bank، فتوقع أن يصل إلى 3000 دولار، وتوقع goldman sachs أن تصل إلى نحو 2700 دولار في نهاية العام الحالي.

إذن، أمران يحددان اتجاه سعر الذهب خلال الشهور القادمة؛ الأول مرتبط بالسيناريوهات الاقتصادية المرتبطة بوضع الركود والتضخم، مثل سيناريو الهبوط الناعم الذي يشير إلى استقرار الأسواق وعدم وجود صدمات اقتصادية كبيرة وسيطرة البنوك المركزية على معدلات التضخم. وفق هذا السيناريو، من المتوقع أن تظل أسعار الذهب مستقرة نسبياً. والثاني الأحداث في غزة والاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة.

قد تظن أن أسعار الذهب الحالية مرتفعة، ولكنك ستُفاجأ عندما تعلم أن القيمة المعدلة للذهب حسب التضخم، تعادل أكثر من 3000 دولار اليوم، وهذا السعر لم تبلغه الأسواق بعد مقارنةً بأعلى سعر تاريخي سُجل في عام 1980، الذي كان 850 دولاراً مع أخذ التضخم بالاعتبار. هذا يعني أن الذهب، رغم ارتفاعاته الحالية، لا يزال لديه مجال لتحقيق قمم سعرية جديدة. فكن مستعداً لهذه السيناريوهات.

المساهمون