باريس في عين عاصفة الاحتجاجات... والاقتصاد الفرنسي يئن

باريس في عين عاصفة الاحتجاجات... والاقتصاد الفرنسي يئن

04 يوليو 2023
حرائق الاحتجاجات تلتهم المحال التجارية وتهدد السياحة في باريس (Getty)
+ الخط -

لم يكد الاقتصاد الفرنسي يخرج من أزمة احتجاجات تعديل سنّ المعاشات التي هزت فرنسا في مارس/ آذار الماضي، حتى هزت أزمة أخرى البلاد، وهي أزمة الاحتجاجات العنيفة الأخيرة التي تحولت إلى أعمال شغب بسرعة بسبب مقتل مراهق على يد الشرطة، ما أعاد إشعال الجدل حول العنصرية وعدم المساواة في البلاد.

ورغم أن حدة التوترات خفت بشكل طفيف خلال الليلة الخامسة من الاضطرابات، حيث سعت السلطات لاحتواء الشغب، إلا أن الكلف المالية للاحتجاجات وتداعياتها على الأعمال التجارية لا تزال تتصاعد حسب وكالات وشركات التأمين.

وحتى الآن وضعت أعمال الشغب الرئيس إيمانويل ماكرون أمام أحد أصعب التحديات في فترة ولايته الثانية.

واندلعت الاحتجاجات العنيفة بعد أن أطلق شرطي مرور في 27 يونيو/ حزيران الماضي النار على مراهق في سيارة مستأجرة لم يلتزم أوامر التوقف. وحتى الآن أجبرت الاحتجاجات ماكرون على تأجيل زيارة دولة لألمانيا مدتها ثلاثة أيام، كانت من المقرر أن تبدأ في الثاني من يوليو/ تموز.

وتشبه الاحتجاجات التي تحولت إلى أعمال شغب ونهب وحرائق بالمحلات التجارية والمتاجر إلى حد ما الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها أميركا في عام 2020 حينما قتلت الشرطة الأميركية بطريقة وحشية المواطن الأسود جورج فلويد، وفق مراقبين.

ويواجه الاقتصاد الفرنسي البالغ حجمه 3.128 تريليونات دولار حسب بيانات "ويرلد إيكونومكس"، أزمات متعددة تراوح بين ارتفاع معدل البطالة والتضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي، إذ تضرر النمو الاقتصادي بشدة من ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة تكلفة المعيشة في العام الماضي ومنذ اندلاع حرب أوكرانيا.

وتراجع تبعاً لذلك نمو الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي بنسبة 0.2% في الربع الثالث من عام 2022. كذلك بلغ معدل البطالة في فرنسا 7.10% حتى مارس/ آذار 2023.

وحسب بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي يوجد مقرها في باريس، نما الاقتصاد الفرنسي بنسبة 2.6% في العام الماضي 2022 بسبب تداعيات الحرب الروسية التي أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وحدوث اضطرابات في سلسلة التوريد.

ومن المتوقع، حسب المنظمة، أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.8% في العام الجاري 2023 و1.3% في العام المقبل 2024.

وعلى الرغم من غياب البيانات الدقيقة حول الكلفة الاقتصادية للاضطرابات التي اجتاحت فرنسا لخمسة أيام متوالية عقب مقتل الشاب، فإنّ وزير المالية برونو لو مير قال يوم السبت إن حوالى 10 مراكز تسوق وأكثر من 200 سوبرماركت و250 متجر تبغ و250 منفذاً مصرفياً تعرضت لهجوم وعمليات نهب خلال الاضطرابات .

من جانبه، قال رئيس غرفة التجارة في مقاطعة إيكس مرسيليا، جان لوك شوفين، لموقع فرانس إنفو: "استُهدف جميع أنواع الشركات، بخاصة تلك التي لديها سلع ثمينة".

وقال إن شركات التأمين قدرت الأضرار، أولياً، بأكثر من 100 مليون يورو (109 ملايين دولار)، وهو رقم سيرتفع بلا شك وسط تصاعد الاضطرابات حتى يوم أمس الاثنين.

لم تقف تداعيات الاضطرابات الحالية في فرنسا على خسائر قطاع السياحة وتضرر المحال، بل امتدت لقطاعات وأنشطة أخرى، فقد ألغت علامة الأزياء الشهيرة "كالفن كلاين" عرضاً للملابس الرجالية كان مقرراً عقده يوم الأحد في باريس، بينما قلصت السلطات وسائل النقل العام في بعض المدن، وتوقفت المناسبات الثقافية وعلى رأسها الحفلات الموسيقية التي عادة ما تدشن بها فرنسا موسم السياحة الصيفية.

وحسب وكالة رويترز، قد تخسر الشركات الفرنسية مئات الملايين من اليوروهات نتيجة هذه الاحتجاجات، لكن الاقتصاديين يقولون إن التأثير في النمو الاقتصادي قد يكون طفيفاً.

لكنهم يرون أنه إذا استمرت الإضرابات والتظاهرات الاحتجاجية لفترة طويلة، ستضعف حتماً الثقة بالأعمال التجارية، وتزيد بالتالي من مخاطر فقدان الوظائف وارتفاع البطالة مع تهديد السياحة، كما تهديد الانتعاش الاقتصادي الهش.

وكان قطاع النقل والصناعات التي تعتمد على النفط الأكثر تضرراً من الاضطراب، لكن تأثير الإضرابات والتظاهرات سيؤثر بالتأكيد في الصناعات الأخرى في البلاد.

ونظمت النقابات الفرنسية ستة أيام من الاحتجاج منذ يونيو/ حزيران، وقررت يومين آخرين، وشنت بعض القطاعات إضرابات متدرجة ضد خطة رفع سنّ التقاعد إلى 62 من 60 سنة، والسن المؤهلة للحصول على معاش تقاعدي كامل إلى 67 من 65.

ولا تزال الاحتجاجات تحظى بدعم غالبية الشعب الفرنسي، رغم أنها تضر بعائدات الأعمال التجارية.

وفي شأن الخسائر، قال متحدث باسم الخطوط الجوية الفرنسية إن الاضطرابات ستكلف شركة الطيران 5 ملايين يورو يومياً، كذلك تقدر شركة السكك الحديدية المملوكة للدولة أن إضراباً ليوم كامل يكلفها 20 مليون يورو، وفقاً لمتحدث باسم الشركة لـ"رويترز".

وتعطلت إمدادات الديزل إلى العديد من محطات الخدمة بشكل خاص على ناقلات النقل البري.

في هذا الصدد، قال عضو اتحاد صناعة النقل البري، نيكولاس بوليسين: "كانت الشركات تكافح بالفعل مع الأزمة الاقتصادية، الآن يتعين عليها القتال على جبهة البترول".

ويلحق النقص في الديزل الضرر بشركات البناء الصغيرة التي تحاول تقليص حجمه، كما ألحق نقص الديزل الضرر بشركات البناء الصغيرة التي تحاول خفض استخدام الوقود إلى الحد الأدنى.

وقال باتريك ليبوس، رئيس جمعية شركات البناء الصغيرة الفرنسية، إن الأعضاء يواجهون صعوبة في تسليم المواد ويتأخرون في مواقع البناء. وفي ذات الصدد، تواجه بعض الشركات احتمال تسريح العمال، وقال ليبوس: "نحن ننتظر، لكن الأمور تزداد صعوبة".

من جانبه، قال رئيس وكالة بيبليكس، ثالث أكبر وكالة إعلانية في العالم، موريس ليفي، إن الصراعات والاحتجاجات الحالية تضر بصورة فرنسا في الخارج.

وقال ليفي لمحطة إذاعة الأعمال BFM الباريسية: "كنت في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، والناس لا يفهمون" الاحتجاجات.

وبدأت الإضرابات بالتأثير في السياحة والأحداث الثقافية قبل عطلة نصف الفصل التي تبدأ في نهاية هذ الأسبوع، ويعيد بعض المسافرين النظر في خطط العطلات.

وألغى الممثل الأميركي تيم روبينز، الحائز جائزة الأوسكار جولة مع فرقته في باريس، كذلك أجلت مغنية البوب الأميركية ليدي غاغا الحفلات.

ومع الاحتجاجات الحالية، تستعيد ذاكرة الفرنسيين ما حدث من خسائر فادحة جراء إضرابات سابقة.

ويقول اقتصاديون إنه لا يزال من السابق لأوانه تقدير تأثير الاحتجاجات بالتعافي الهش لفرنسا، وتكرار الركود الذي حدث في 2008-2009.

في هذا الشأن، قال كبير الاقتصاديين في شركة Xerfi الاستشارية الفرنسية، ألكسندر لو: "أدت الإضرابات في نهاية عام 2007 إلى خفض 0.2 نقطة مئوية من معدل النمو في ربع واحد من العام، أو 0.5 نقطة على مدار عام كامل، وهو أمر غير عادي". وهذا يترجم إلى خسارة بنحو مليار يورو للاقتصاد الفرنسي.

من جانبه، قال الخبير الاقتصادي بمصرف باركليز كابيتال، لورنس بون، إن الإضرابات الأكثر دراماتيكية التي استمرت ثلاثة أسابيع في نهاية عام 1995 قلصت النمو الاقتصادي للناتج المحلي الفرنسي 0.2 نقطة مئوية فقط حسب تقديرات مكتب الإحصاء الوطني الفرنسي.

وقال الخبير الاقتصادي مارك تواتي من شركة الوساطة الفرنسية، غلوبال إيكوتيز، إنه كلما طال أمد الاحتجاجات، أصبح الأمر أكثر إيلاماً للاقتصاد مع تضاؤل ثقة الأعمال.

وكانت السلطات الفرنسية قد وجهت إلى الضابط الذي أطلق الرصاصة تهمة القتل العمد وهو رهن الحبس الاحتياطي.

وتعود الاضطرابات في فرنسا إلى عام 2005 عندما أعقبت أسابيع من أعمال الشغب مقتل صبيين في محطة كهرباء فرعية بعد مطاردة الشرطة. وسلطت الضوء على ممارسات الشرطة الفرنسية، بالإضافة إلى التوترات المستمرة منذ فترة طويلة في الضواحي الفقيرة.

وفي عام 2005، أعلنت الحكومة الفرنسية حالة الطوارئ التي استمرت قرابة شهرين، وهي خطوة تجنبها ماكرون حتى الآن.

ويواجه ماكرون الذي يدير حكومة أقلية يتجاذبها نواب في أقصى اليسار وآخرون في اليمين القومي المتشدد اختباراً اقتصادياً صعباً خلال النصف الثاني من العام.

وكان ماكرون قد نجح للتو في الخروج من معركة سياسية طويلة لسنّ إصلاح رفع بموجبه الحد الأدنى القانوني لسنّ التقاعد من 62 عاماً إلى 64.

المساهمون