}
عروض

"بذلة الغوص والفراشة" الكتابة برمش العين

كمال الرياحي

12 يوليه 2017
بعد أن تعرض الصحافي الفرنسي جان دومينيك بوبي لجلطة شلت كل أعضائه تقريبًا ولم يبق يشتغل من جسده إلا دماغه وعضلات عينيه، في ما يسمى بمتلازمة المنحبس، اختلق طريقة يشير بها إلى كل حرف ليملي على ممرضته، برمش عينه اليسرى، كتابًا برمته حرفًا حرفًا، تجربته مع مرضه النادر والفظيع. هذا هو ملخص قصة الكتاب والطريقة التي جاء بها إلى العالم في ولادة شبه أسطورية: "بذلة الغوص والفراشة" التي نقلها إلى السينما المخرج والرسام الأميركي جوليان شنابل وكتب حواره رونالد هاروود وقد سبق ورشح لجائزة الأوسكار لعام 2007. وعن هذا الفيلم فاز صاحبه بجائزة أفضل مخرج عن الفيلم في مهرجان كان السينمائي 2007. وفاز الفيلم بعديد الجوائز في مهرجانات سينمائية أخرى، كما تعرض لنقد كبير أيضًا بسبب ما اتهم به النقاد المخرج وكاتب السيناريو من انحياز لشخصية ثانوية في الفيلم، وهي شريكته التي أملى عليها بوبي الكتاب على حساب بوبي نفسه بطل السيرة وكاتبها.

هذا الكتاب الذي أثار جدلاً كبيرًا في الأوساط الثقافية والإعلامية، خاصة بعد وفاة صاحبه بعد أيام فقط من نشره. يظهر مؤخرًا ولأول مرة في نسخة عربية عن دار مسكلياني ونقلها إلى لغة الضاد بتميز التونسي شوقي برنوصي. 

 

سيرة المرض وقصة التحدي

لم يكن الصحافي الفرنسي ذائع الصيت ورئيس تحرير مجلة Elle جان دومينيك بوبي، يعلم ما حدث له عندما استفاق من غيبوبته بعد أسابيع من تعرضه للجلطة. لذلك أخذ يكتشف ما حدث له تدريجيًا عبر متابعة ما يجري معه داخل غرفته رقم 119 في المستشفى البحري ببارك. لكن الثابت أن بوبي استفاق من رقدته مقبلاً على الحياة عازمًا على الكتابة.

"روحي الجامحة هيأت ألف مشروع: رواية، رحلات، ومسرحية إلى تسويق خلطة غلال من اختراعي،...". لذلك لم يكن أمر الإقدام على الكتابة أمرًا جديدًا عند بوبي، لكن الجديد أنه لن يكتب كالعادة. فيده مشلولة مثل قدميه، ولسانه ثقيل لا يقوى على النطق، لذلك سيتعذر عليه أن يملي. لكنه وفي وقت قياسي وجد الحل وهو الإملاء بطريقة جديدة خاصة به تشبه مرضه النادر تمامًا، وهو إعادة النظر في التعامل مع اللغة نفسه بأن تنطقها العين ويرسمها الرمش. وكان على بوبي أن يجد من يساعده في نقل حركات رموشه إلى حروف على الورق تقول ما ركبه في ذهنه من جمل وفقرات.

تعامل بوبي مع مرضه النادر بالكثير من البرود، وكأن ذهنه يفكر بجسد آخر في سخرية كبيرة من الألم ومن الموت. فكان يتقبل ما حدث له دون فزع ولا انفعال. فمنذ محاولة وضعه على الكرسي المتحرك الخاص لمثل حالته، فهم أنه انتقل من وضعية المريض إلى وضعية المعوق.

هذه الوضعية الجديدة للرجل المعوق إعاقة حساسة جدًا، تجعله مهددًا بالموت بمجرد خطأ صغير في بلع الريق أو التنفس لم تقف أمام رغبته في التمتع بالتفاصيل التي تتدفق من حوله، ولا حتى التمتع بالطقس وتفاصيل النهار من شروق وغروب ومطر وصحو.

يروي الكتاب تجربة بوبي مع هذا المرض النادر، ويرسم صورة واضحة لحالة مريض متلازمة المنحبس، الذي يجد نفسه في لحظات حالمًا بأبسط الأشياء الضرورية لمواصلة حياته. يقول بوبي: "سأكون أسعد الرجال عندما أتوصل، وعلى نحو لائق، إلى بلع فائض اللعاب الطافح به فمي طوال الوقت. لم يطلع النهار بعد وما زلت أتمرن على سحب لساني إلى مؤخرة الحنك مستثيرًا ردة الفعل اللاإرادية الخاصة بالبلع".

يقدم لنا بوبي قصة جسد يحتضر أراد لنفسه أن يقاوم الموت ويسخر منه. جسد كسيح أبكم رفض أن يخرج من الخدمة ولم يبق منه سوى رمش يتحرك ويترجم الأفكار والأحاسيس.

إننا مع جسد بوبي نكون مع ما يسميه دافيد لوبروتون في كتابه الجسد والحداثة طقوس المحو، فهذا الجسد الحاضر بكل  ثقله المرضي يتضاءل ويسير نحو المحو تدريجيًا بداية بخسران الوزن، خسر ما يفوق عشرين كيلوغرامًا في أيام قليلة، وخسارة الوظائف خسارة كاملة، ليكون جسدًا فائضًا عن الحاجة، لولا ضرورته الميروبنتية التي تضعه شرطًا ضروريًا لموضعة النفس التي ما زالت سليمة تمامًا وتشتغل كما كانت ما قبل الحادث.

هكذا نغادر حالة المرض لنصبح أمام فكرة وأمام وضعية من وضعيات التفلسف، تطرح السؤال الجديد القديم: هل يمكن أن نعيش من دون أجسادنا؟ وكيف يمكن أن ننجو من أجسادنا؟

إن جسد بوبي نجا من لقب العاهة، ولم يعد ينظر إليه كجسد مصاب بعاهة بل على اعتباره جسدًا إشكاليا عصيًا عن الفهم. إنه جسد بليغ وشاسع يرفض أن يتموضع بسهولة في الحيز، وهذا ما أشار له بوبي عندما فشل طاقم الأطباء في التعامل مع جسده في الكرسي أول مرة. وسخر منهم جميعًا وهم يعودون به إلى وضعية الاستلقاء.

"أعادني ثلاثة ممرضين إلى وضعية الاستلقاء، كنت منشغلاً برجال العصابات في الأفلام السوداء، أولئك الذين يشقيهم إدخال جثة غريمهم في صناديق سياراتهم، في حين أنهم كانوا قبل ذلك بقليل بصدد ثقب جلده".

هكذا يسخر الجسد العاطل من المشرح والطبيب ومن المؤسسة بشكل عام، التي تعتقد أنها تدركه ليقول بوبي أن الجسد أيضا أكبر وأكثر شساعة مما نعتقد، وأن هذا الجسد الميؤوس منه أيضًا هو نفسه الجسد الذي يصنع هذه السخرية وهذا الكتاب ويدون هذه التجربة.

طاولت السخرية حتى الجسد الذاتي نفسه وقد خرج عن السيطرة، فيلتفت إليه بوبي ليسخر من عجز أعضائه عن أداء حتى الوظائف البسيطة والإيماءات كإرسال القبل وغيرها ليكلفه وهو على تلك الحال بتدوين تجربة شاقة هي تجربة المرض النادر"م.م".


لكن هذه السخرية أيضًا يمكن أن تقرأ مقلوبة فتتحول إلى مديح؛ فلولا هذا الرمش وهذه العضلات الرفيعة منه، لما تحقق شيء من هذا التدوين وهذا الكتاب، فينقلب الخطاب إلى مديح لاقتصاد الجسد واحتفاء بعظمته ودعوة إلى إدراكها.

يتعامل بوبي مع من حوله بكل ثقة ولا يشعر بأي مشاعر من الهوان، فقط هي لحظات وعي  شقي بتراجيديا التجربة سرعان ما يتخلص منها، ليعيد النظر إلى نفسه لا بصفته مريضًا بل متحولاً. جسد تعاظم وحظي بعيش هذه التجربة النادرة التي جعلت الجميع من حوله في حرج. هذه الصورة الكافكاوية الشبيهة بحالة غريغور سامسا في رواية "المسخ".

 

المذكرات أم اليوميات؟

يأخذ الكتاب شكل المذكرات التي تروي أيام بوبي مع المرض، وليست هي لا بالسيرة الذاتية ولا باليوميات، ومع ذلك فهي تتماس مع هذه الأنواع السردية وتتخذ أسلوبًا روائيًا في سرد هذا اليومي الغريب لتجربة حياة خاصة. لذلك جاءت عناوين الفصول دالة على هذه التجارب وهذه المراحل في التعاطي مع هذا الوضع الذي وجد بوبي نفسه حبيسه.

اجترج بوبي لغة شعرية خاصة لسرد تجربته وقد ربط علاقة حميمة بالحرف. فأعاد توزيع الحروف اللاتينية وترتيبها وفق "تكرار، الحرف، في اللغة الفرنسية" لتكون هكذا: ESARINTULOMDPCFBVHGJQZYXKW

تطير لغة بوبي بجناحين؛ جناح للشعر يتحسس به رهافة اللحظة وعمقها، وجناح للسخرية مما كان ظاهرًا كقدر وكقوة، في ما قبل التجربة والفوضى التي خلقها وضعه الجديد حول محيطه القديم وطاقم الأطباء والممرضين. وهذا الأسلوب الخاص هو الذي جعل من قراءة تجربة المرض النادر عملية ممتعة وخاصة، وجعل من الحديث عن التفاصيل العلمية الدقيقة مساحة للفن وللأدب التي تتسع للمشاعر الإنسانية والأفكار الخلاقة والدروس النادرة في فصول التحدي للذات البشرية.

يراجع بوبي من خلال هذا التأمل في ذاته الجديدة، حياته السابقة وإخفاقاته في الحب والحياة ليكون المرض فرصة أخيرة للتعرف على الذات واكتشافها لانهايتها. إنها صراع أسطوري  من أجل الإمساك بالحياة لرجل مكبل بالأغلال داخل شلله يريد أن يمسك بالفراشة الطائرة من حوله استعارة عن هشاشة هذه الحياة ورهافتها؛ حياة ككلمة، رهينة رمشة عين خاطئة ليفسد المعنى ويفسد ما حوله من معان.

يبقى هذا الكتاب الذي تطلب 200 ألف إغماضة للعين، واحداً من الكتب العالمية الرائعة في أدب الكتابة عن الذات، التي تروي تجربة مخصوصة ودقيقة يتعرض لها كاتب، وهو من الكتب المحيرة في تصنيفها؛ هل هي من أدب السجون أم من أدب الأمراض والعاهات والأوبئة  أم من أدب السير والتخييل الذاتي أم من أدب الرعب؟ لكن المؤكد أنها من أدب الفظيع الساخر وأدخل في الأدب الحميم.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.