خالد طحيمر: يرغول خان الشيح

خالد طحيمر: يرغول خان الشيح

29 سبتمبر 2014
لـ عبد الرحمن المزين (مقطع من لوحة)
+ الخط -

لا بدّ أنّ كثيراً من مستمعي "إذاعة دمشق" يذكرون نغمات اليرغول التي كانت تبثّها، لسنواتٍ طويلةٍ، في فقرةٍ اسمها "صوت فلسطين من دمشق". لكن أحداً لم يخطر له، ربما، أن يسأل عن الفنان الذي استطاع أن يسكن وجدان الناس بوصلةٍ لا تتجاوز الثماني دقائق.

هكذا، كان على خالد سليمان طحيمر (1897- 1995)، كما على كل الفنانين الشعبيين، أن يبقى مجهولاً. وربما يكون تسجيل "إذاعة دمشق" هو الوحيد الناجي من ميراث أبي أحمد؛ فعلى الرغم من أهميته الكبيرة في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، إلا أنه لا "منظمة التحرير"، أو أي جهة أهلية، عملت على أرشفة تسجيلاته.

على الرغم من أنّ آلات القصب رافقت الإنسان منذ القديم، وعرفت أشكالاً متعدّدة، لعلّ أشهرها المجوز، الآلة التي تعرفها معظم الدول العربيّة من المشرق إلى المغرب، وهي عبارة عن قطعتي قصب قصيرتين ملتصقتين؛ إلاّ أن الفلسطينيين تميّزوا بآلة اليرغول، وهي عبارة عن تحوير على فكرة المجوز، يقوم على تطويل القصبة اليمنى، وتثقيب اليسرى فقط. ذلك ما منحه شجناً مضاعفاً.

يسمّى عازف اليرغول، كما مختلف عازفي الآلة الشعبية، شاعراً. ولا نعرف ما الذي يدفع الناس إلى ربط الشعر بعزف الموسيقي، فيما يسمّون من يُفترض أن يكون شاعراً بـ "القوّال. وفي طبقات شعراء اليرغول، يتصدّر طحيمر  الطبقة الأولى، حاله، في المقارنة، حال امرؤ القيس الذي يذكر كبداية للشعر الجاهلي. وفعلاً، فإن لطحيمر ذلك الحضور في مجاله، حيث لا نعرف له آباءً بمقدار ما نعرف أبناءه الذين يدينون بفضله حتى يومنا، كحال العازف أشرف أبو الليل.

ابن مخيم خان الشيح (في ريف دمشق الغربي) الذي يتعرّض اليوم لكل أنواع القذائف والبراميل، مات بعدما سئم تكاليف الحياة، بل بعدما تجاوز شرط زهير بن أبي سلمى للسأم.

 قرابة قرن كامل من الزمن، عاشها كمن يغني أو يلاعب القصب، وظلّت سيرته الشخصية مجهولة، رغم أن الفلسطينيين كثيراً ما اهتموا بالذاكرة ورمزوها، لكن رائد آلة اليرغول سقط سهواً. ينتمي الفنان إلى سهل الحولة في فلسطين، وتعود أصوله إلى "عرب المواسي"، تلك القبيلة التي تعرّضت لمجزرة منسية، هي الأخرى، في سياق مجازر النكبة الفلسطينة، وذلك في 2/ 11/ 1948، حيث ذهب ضحيتها 15 رجلاً من قرية صغيرة للغاية، هي "الوعرة السوداء".

عاش أبو أحمد حياته في مخيم خان الشيح. تزوّج أربع مرات، وخلّف سلاسةً كبيرةً، حتى أن أولاده وأحفاده يحتلون حارة كاملة من حارات المخيم المذكور. أحيا آلاف الأعراس، وكان يعزف من دون مقابل، إذ يكفي أن يعرف أن هناك عرساً، ليأتي ويباشر العزف، ويمكن لأي رجل أو امرأة من الدبكة أن يغني له.

يروى أنه كان يغضب من المغني الذي ينشّز، فيطلق من يرغوله زمجرةً في وجه صاحب النشاز تجعله أضحوكة في العرس. ويروى أيضاً أنه كان ساخراً كبيراً، وأن كل الألقاب الطريفة التي نالها أبناء جيله إنما أتت من لسانه السليط. كما يروى أنّ عائلة طلبت منه العزف في جنازة أبيهم، لأنّ الفقيد كان مولعاً بأنغام طحيمر.

لم يكن عمله إلا عمل أبناء مخيمه من اللاجئين الذين فقدوا كل أسباب الحياة، ولم يكن أمامهم إلا العمل بالمياومة في الزراعة. والطريف حقاً أن بين المهن التي زاولها، لاحقاً، حفر القبور. المهم في سيرته أن الموسيقار محمد عبد الوهاب تحدّث عنه مرة، كما تذكّر ذلك "الموسوعة الفلسطينية"، وقد استدعي للعزف في القاهرة أيام الوحدة السورية المصرية، وكان لديه يرغولان سماهما على اسمي صواريخ جمال عبد الناصر: "القاهر" و"الظافر".

ومما يقال عن تلك الرحلة، إنه ظل يعزف طيلة الطريق من دمشق إلى القاهرة، بالتناوب على يرغوليه. حاولت مرةً مقابلة أكبر أبنائه للحصول على معلومات لكتابة نص سيريّ، لكنه طردني غير مصدّق أن في المخيم صحافيين.

المساهمون