جيمس بالدوين: المستقبل أسود.. يا للروعة

جيمس بالدوين: المستقبل أسود.. يا للروعة

10 اغسطس 2014
+ الخط -

تحتفي نيويورك هذا العام، وحتى صيف العام المقبل، بالكاتب والمسرحي والروائي الأميركي من أصل إفريقي جيمس بالدوين (1924 - 1987). ومن المحزن ألا تعرف المكتبات العربية سوى ترجمة يتيمة لإحدى رواياته تحت عنوان "لو كان لشارع بيل أن يتكلم" (ترجمة رفيدة خباز، 2009).

لم يتقوقع بالدوين في أعماله ويكتب عن أوضاع الأميركيين الأفارقة فقط، بل كان مناصراً للقضية الفلسطينيية بصورة واضحة لا تقبل المساومة. ورأى أنّ مشكلة فلسطين بالأساس مشكلة استعمارية. وجاءت مواقفه في هذا الشأن معاكسة لمواقف كثير من المثقفين اليساريين المعاصرين له في الولايات المتحدة وأوروبا.

ولعلّ عدم التباس الرؤيا عنده بالمقارنة مع غيره من المثقفين اليساريين، يعود إلى الفرق بين تجربتي "الأبيض" و"الأسود"، بالمعنى الذي تحدث عنه جيمس بالدوين، وغيره من الكتاب والمفكرين السود مثل فرانس فانون. فكلمة "الأبيض"، وإن كانت للوهلة الأولى تعني الشخص ذا البشرة البيضاء، إلا أنها ترمز إلى تجربة ووضع فرد ومجموعة، لتصبح بذلك أكثر من كونها مجرد وصف للون بشرة، بل هي مصطلح ذو دلالات اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية. إنها مصطلح يتحدث عن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، بين "العبد" و"السيد"، أو العلاقة بين إرث العبودية، بالمعني الحرفي للكلمة بالنسبة  للأميركيين الأفارقة، وبين المستعمِرين البيض.

يتحدث بالدوين، في الجزء الأول من الشريط المرفق وأثناء محاضرة له في لندن، عن أن الأغلبية الساحقة من السود الأميركيين لا يعرفون من أي دولة ينحدرون في إفريقيا. فالمستعمرين البيض، الذين أتوا بهم للولايات المتحدة واستعبدوهم لعصور، حاولوا محو هوياتهم الأفريقية بشكل دائم ومتعمّد.

يتناول بالدوين في كتاباته الأدبية والنظرية موضوع العبودية والتفرقة العنصرية ضد السود، ومواضيع حساسة اجتماعياً كميوله المثلية دون أن يلعب دور "مهرج البلاط" لمجتمع الأغلبية الأبيض في الولايات المتحدة، ودون أن يجمّل بأي شكل من الأشكال العلاقات الشائكة بين أطيافه، ودون أن يقع، في ذات الوقت، في مأزق "العنصرية المعاكسة".

تأثر جيمس بالدوين المولود في حي هارلم، النيويوركي الشهير، بما عاشه من فقر وعنصرية وعلاقته الشائكة مع أبيه القسيس (زوج أمه، فهو لم يعرف أباه البيولوجي)، وتحدث دائماً عن زوج أمه وكأنه أبوه. كما عاش حياة فقر مريرة، كغيره من السود في حي هارلم. واضطر بعد موت والده إلى إعالة إخوته الثمانية، ولم يدرس في الجامعة مباشرة بعد إنهائه الثانوية العامة، بسبب أوضاعه ومسؤولياته المادية. انتقل عام 1945 إلى حي غرينويش فيليج في مانهاتن، والذي كان يقطنه الكثير من الكتاب والفنانين آنذاك. تعرّف على الكاتب الأميركي الأسود ريتشارد رايت، الذي لعب دوراً مهماً في بداية طريق بالدوين الإبداعية. ساعده ريتشارد رايت بالحصول على منحة كتابة، مكّنته من التفرغ والانطلاق في الكتابة الإبداعية. كما تمكن، بسبب كتابته المتميزة، من نشر مقالات عديدة في صحف مرموقة كـ"ذا نيشين" و"باريس رفيو".

كان جيمس بالدوين كاتباً ومبدعاً شاملاً، أصدر المسرحيات والروايات، وكتب الشعر والمقالات، كما كان ناشطاً سياسياً وواحداً من رموز حركة مناهضة العنصرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة. انتقل للعيش في باريس عام 1948، بعد حصوله على منحة إبداعية هناك. ليقسّم حياته بين الولايات المتحدة وفرنسا حتى مماته فيها.

شكّل الانتقال إلى باريس نقلة نوعية بالنسبة له في تطوّره الإبداعي والنفسي، وخاصة بسبب البعد الجغرافي عن موطنه الأم نيويورك. فوصف انتقاله إلى فرنسا بالانتقال الذي حرّره ككاتب من سلاسل العيش كأسود في الولايات التحدة.

 أصدر بالدوين روايته الأولى عام 1953، وهو في الـتاسعة والعشرين من عمره. وكتب العديد من الروايات والمسرحيات واكتسب شهرة في الولايات المتحدة، خاصة بسبب مقالات الرأي التي كتبها عن السياسة والمجتمع. لكن انطلاقته الكبرى كانت عند وصول روايته "لا أحد يعرف اسمي" (1961)، إلى قائمة الروايات الأكثر مبيعاً لذلك العام في الولايات المتحدة، لتبيع أكثر من مليون نسخة.

وفي الوقت الذي شهدت كتاباته الأولى حساً متفائلاً بالتوصل إلى مصالحة ما في الولايات المتحدة بين مجتمع الأكثرية والأقليات، وخاصة السود، حملت المرحلة الثانية من كتاباته تشاؤماً ملموساً، وخاصة بعد مقتل قادة حركات التحرر السود في الولايات المتحدة كمارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس.

ما معنى أن تكون أسود في نيويورك؟ يقول بالدوين عن ذلك: "أعرف، [كأسود] ما معنى أن تكبر وترى من حولك أكفان إخوتك وأخواتك تتجمع دون أن يكون لهم ذنبٌ [بقتلهم/ موتهم]، وذلك في أغنى وأشهر مدينة في العالم"، ويضيف في هذا السياق: "أعرِف أنه عندما تقف على رجليك وتنظر إلى العالم مباشرة وكأن لك الحق بأن تعيش على هذه الأرض [بالتساوي]، عندما تفعل ذلك غير مدركاً للعواقب، ستكون قد هجمت على مركز القوة في العالم الغربي".

ليس صدفة إذاً أن يناصر هذا الكاتب القضية الفلسطينية، ليكتب عنها في أكثر من مناسبة، وخاصة فيما يتعلق بادعاءات إسرائيل أنها تمثّل كل يهود العالم. كتب في مقاله الذي نشره في مجلة "ذا نيشن" عام 1979 مدافعاً عن فلسطين وأهلها، ناظراً إلى "إسرائيل" كدولة تمثل نظاماً استعمارياً، لا علاقة له بحق اليهود بتقرير مصيرهم، أو الحصول على حقوق كاملة في أوطانهم المختلفة. تمكّن بالدوين من الفصل وبصورة واضحة في مقاله بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة قومية عنصرية، استغلت اليهودية، لتصل إلى أهدافها. وتعود الأهمية في موقف بالدوين ووضوحه إلى تغاضي الكثير من اليساريين الماركسيين عن نكبة فلسطين وتأييد قيام إسرائيل. وكتب في ذلك: "لم تخلق إسرائيل من أجل تحرر اليهود، بل أُوجدت من أجل المصالح الغربية. هذا ما أصبح واضحاً. (وعلي أن أقول، إن ذلك كان دائماً واضحاً بالنسبة لي)".

ويضيف بالدوين: "الفلسطينيون يدفعون ثمن السياسة الاستعمارية البريطانية التي تتلخص بمبدأ "فرّق تسد" وكذلك يدفعون ثمن شعور الأوروبيين المسيحيين بتأنيب الضمير [لجرائم النازية]، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً. كشف سقوط نظام الشاه، كذب نظام كارتر حول "حقوق الإنسان"، ولكنه كذلك كشف الجهة التي تزود إسرائيل بالنفط وكشف الجهة التي تزودها إسرائيل بالأسلحة، إنه النظام الأبيض [نظام الفصل العنصري] في جنوب أفريقيا".

دلالات

المساهمون