عبد الحفيظ بن عثمان: "المجرم" يغادر سجنه

عبد الحفيظ بن عثمان: "المجرم" يغادر سجنه

26 فبراير 2015
(تصوير: دوم غارسيا)
+ الخط -

في إحدى المصحات الباريسية رحل قبل أيام الكاتب الجزائري عبد الحفيظ بن عثمان عن 54 عاماً. بن عثمان كاتب مجهول بالمطلق لدى القراء العرب ومعروف نسبياً في فرنسا بسبب شخصيته الغريبة التي جمعت بين الكتابة والإجرام.

ولد بن عثمان عام 1963 في باريس من أبوين جزائريين هاجرا إلى فرنسا في بداية الخمسينيات، وقضى معظم طفولته في أحياء الدائرة السادسة. دخل السجن بتهمة السرقة لأول مرة في عمر لا يتجاوز 16 عاماً، مدشناً بذلك علاقة حميمية بالسجون ستلازمه طيلة حياته المتشظية.

بعد إطلاق سراحه، اشتغل في عدة مهن هامشية بموازاة ولوجه عوالم الليل والإجرام الباريسية، إلى أن زُجّ به في السجن لمدة سبع سنوات نافذة بعد القبض عليه متلبساً بتهمة السطو على مصرف في واضحة النهار عام 1979. في تلك الفترة، تنقل بين عدد من السجون الفرنسية واكتشف الأدب عندما انضم بالصدفة إلى ورشة كتابة تشرف عليها إدارة السجون، وتعلّم بفضلها أبجديات الكتابة التي تألق فيها بسرعة مثيرة.

ولج بن عثمان عالم الأدب من موقع السجين الهامشي الغاضب على العالم، ومارس القراءة والكتابة بالشغف نفسه والجنون الذي مارس به الإجرام والسرقة المنظمة، وولع خصوصاً بالكاتب الروسي أنطون تشيخوف قراءةً وتشخيصاً في فرق مسرحية هامشية.

كان بن عثمان صاحب شخصية مزاجية متقلبة، مسكوناً بإحساس قاهر وغريزي بالظلم، كما كان يكره العمل ويحب المال السهل والحياة الخاملة: "بين كتابة حلقة مسلسل تلفزيوني والسطو على مصرف، اخترت الحل الثاني بلا تردد"، كتب ذات مرة.

عام 1990 عاد من جديد خلف القضبان بسبب مشاركته في عملية سطو مسلحة بعد أن حُكم عليه بتسع سنوات نافذة. هذه المرة سيعكف على القراءة ويبدأ بكتابة أولى قصصه القصيرة التي سينشرها لاحقاً في مجموعته "المجانين" الصادرة عن دار "ريفاج"، أكبر وأهم دور النشر المتخصصة في "الرواية البوليسية السوداء"، بتقديم خاص من الكاتب البريطاني روبن كوك.

لقيت قصص بن عثمان في هذه المجموعة، وفي مجموعته الأخرى الصادرة عام 2006 بعنوان "أعمدة التعذيب"، صدى إيجابياً فورياً، خصوصاً لدى قراء "الرواية السوداء"، بسبب واقعيتها الآسرة وبفضل نبرة الصدق القوية التي تكتنفها وأسلوبها الملتهب والغاضب ذي الحمولة السياسية العنيفة. وعن أسرار ولعه بكتابة القصة من دون غيرها من الأجناس الأدبية، كان يجيب دائماً: "بسبب حجمها القصير الذي يسهل عملية تهريبها من السجن".

لكن بتشجيع من ناشره وأصدقائه، وغالبيتهم من الناشطين الحقوقيين والصحافيين وكتّاب الرواية البوليسية، دخل معترك الكتابة الروائية وكتب روايته الأولى: "زبال في منصة الإعدام"، التي استوحاها من سيرته الذاتية، وصدرت عام 2003، وهي الرواية التي استقينا منها معلومات ثمينة حول مساره الفريد والتائه بين دهاليز المحاكم والسجون.

ورغم أن روايات بن عثمان مصنفة في إطار "الأدب البوليسي"، فهي لا تسرد قصص الجريمة بالمعنى المتفق عليه في الرواية البوليسية، ولا تبني حبكة تبدأ أو تنتهي بفك لغز جريمة، بقدر ما هي وصف للعوالم السوداء المنغلقة التي تكبّل الكائن وتفصله عن المجتمع.

توالت بعد ذلك روايات أخرى، من أجملها "اعتقال احتياطي" و"المشي ليلاً بلا قمر"، وهي رواية قيد التحوّل إلى فيلم سينمائي من طرف المخرج عبد اللطيف كشيش، الذي اشترى الحقوق السينمائية للعديد من قصص بن عثمان. كما كتب الراحل مسرحيتين ومجموعة شعرية يتيمة أصدرها عام 2010، وكتب بالاشتراك سيناريو فيلمي "على الخشبة" للمخرجة المغربية ليلى كيلاني، و"حمى" للمخرج نبيل عيوش.

سيرة حياة بن عثمان توزعت بالتساوي بين حياة السجن حيث انكب على القراءة والكتابة، وحياة سراح مؤقت قضى جلّ أيامها في التخطيط لعمليات سطو فاشلة كانت تقوده دائماً إلى المحاكم والسجون. في نهاية التسعينيات، انخرط في نشاط الجمعيات الحقوقية المهتمة بتحسين وضعية السجون والتشجيع على إعادة إدماج السجناء، بالتوازي مع نشاط أدبي قوي بين الكتابة والممارسة المسرحية والسينمائية.

ورغم أن حظوظ بن عثمان في طي صفحة الإجرام كانت قوية جداً بفضل احترافه الكتابة ونجاحه فيها واستقراره العائلي بعد زواجه، فقد كان من المستحيل عليه أن يخرج من قدره الرهيب ومن جلد اللص الغاضب الذي غلّف شخصيته إلى الأبد. هكذا عاد بن عثمان إلى خطيئته الأصلية وقام بعمليات سطو مسلحة عام 2003 على أربعة مصارف في ضواحي باريس.

في النهاية، قضى بن عثمان نصف حياته تقريباً في السجن وبدون أوراق هوية قانونية لأنه كان يكره الإجراءات الإدارية ولم يتقدم أبداً بطلب الجنسية الفرنسية. كان نموذجاً للمجرم ذي السوابق الذي ما إن يخرج من السجن حتى يعود إليه بدافع غريزي في أقرب فرصة.

لكنه في العمق كان "لصاً ظريفاً" له ضوابط أخلاقية وخطوطاً حمراء لا يتجاوزها أبداً. فالرجل كان متخصصاً في السطو على المصارف و"مال الأغنياء"، ولم يعتد أبداً على أحد في هجماته التي كان يستخدم خلالها أسلحة مزيفة ويحرص على أن لا تُسفك فيها قطرة دم.

المساهمون