أحمد الصفريوي.. إقامة في "صندوق العجب"

أحمد الصفريوي.. إقامة في "صندوق العجب"

01 سبتمبر 2014
+ الخط -

في أرشيف "لوفيغارو"، أقدم الجرائد الفرنسية، وتحديداً في الزاوية المخصصة لسِيَر مشاهير الأدب والفن التي يتصدرها الروائي الفرنسي مارسيل بروست، تصف الجريدة الكاتب المغربي الراحل أحمد الصفريوي (1915 ـ 2004) بأنه "ظل حتّى مماته كاتباً كبيراً بقلم أصيل ومبتكر قادر على خلق بؤرة حقيقية للانصهار الثقافي".

لكن الخانة التي تندرج تحتها سيرة الصفريوي تحمل عنوان "أدب فرنسي"، ويكفي هذا التصنيف ليعيدنا إلى سؤال كان قد شغل المغاربة لفترة: هل ما كتبه الصفريوي وادريس الشرايبي ومحمد خير الدين وعبد اللطيف اللعبي والطاهر بنجلون وغيرهم "أدب فرنسي" كتبه مغاربة أم "أدب مغربي" مكتوب بالفرنسية؟

ربما لم يعد لهذا السؤال معنى الآن، فالأساس والأهم ليس اللغة بل التجربة والمضمون، لكن يبدو أن تصنيف "لوفيغارو" لمنجز الصفريوي في خانة "الأدب الفرنسي" فيه نوع من التقدير، فالأوساط الثقافية في باريس غالباً ما تضع ما يكتبه غير الفرنسييين بالفرنسية في خانة "الآداب الأجنبية".

لم يكن الطفل أحمد، ابن الطحان البسيط في حيّه الشعبي القديم في مدينة فاس يعرف أنه سيكون اسماً بارزاً ومرجعاً أساسياً في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. التحق بدايةً بالكتّاب لتعلّم القرآن، لينتقل بعدها إلى مدرسة فرنسية مغربية، حيث انفتح على ثقافة أخرى وعلى لغة جديدة كتب بها لاحقاً عمله الأول "سبحة العنبر" الذي حظى كمخطوط بـ "الجائزة الأدبية الكبرى" سنة 1947، ليكون بذلك أول مغربي يتسلم هذه الجائزة. وسينال بعدها جائزة "الأكاديمية الفرنسية" عام 1949، وجائزة "رئيس الجمهورية الفرنسية" عام 1953، وغيرها.

بالموازاة مع مساره الأدبي، عمل الصفريوي في الصحافة، وانشغل أكثر بالتراث حيث أدار متحف "الضحى"، وأسس متحف "البطحاء"، وصار في ما بعد مسؤولاً عن المتاحف والمباني التاريخية في المغرب، كما شغل مناصب مختلفة في وزارات الثقافة والتعليم والسياحة.

اليوم تمر عشر سنوات على رحيله وستون سنة على صدور روايته الشهيرة "صندوق العجب" التي خلّفت وراءها مساحة هائلة من النقاش جمعت بين الاحتفاء والنقد.

تسرد الرواية كثيراً من التفاصيل والمشاهد بعين طفل يلازم أمه، يتردد معها على الحمّام الشعبي، حيث ينقل للقارئ دهشته من منظر النساء العاريات وسط بخار الحمّام، ناقلاً أيضاً ما كان يقع في منزل الشوّافة (العرّافة) وما يدور من أسرار في جلسات النساء، وكاشفاً عدم تحمسه لحفظ القرآن، ومصوّراً المسيد (الكتّاب) بشكل كاريكاتيري يتحول فيه الفقيه من القسوة إلى الطيبة كلما اقتربت عاشوراء، المناسبة السنوية التي ينتظر خلالها الهدايا والأعطيات.

يشعر الطفل سيدي محمد أنه مختلف، فهو يؤمن، على عكس أقرانه، بعالم الماوراء، وتجذبه أحاديث الوالد والبقّال عن الجنة والنار والمخلوقات اللامرئية، ويتعقب في الآن ذاته حكايات الواقع والخيال. وحين يتعب أو يحس بالملل يعود إلى لعبته الأثيرة "صندوق العجب"، اللعبة التي ستصير عنواناً لتحفته الأدبية، وتصير معها المحكيات الشعبية محتوى هذا الصندوق العجيب.

يعلل الصفريوي اختياره الطفل كراوٍ للأحداث بما كان يطبع الحياة المغربية من تحفّظ وتستر بخصوص تفاصيل المرأة داخل البيت. فالطفل هو الوحيد القادر على الولوج بيسر إلى عالم النساء ومعرفة ما يدور في جلساتهن، والمؤهل لأن يعطينا كقرّاء نظرة عن الحياة النسوية في مغرب العشرينيات.

عدد من النقاد والكتاب، سيما الذين وصلوا إلى أرض الكتابة بعد الصفريوي، كانوا يرون أن رواياته لم تكن موجهة للقارئ المغربي، بل لقارئ آخر، وهذا ما سيجعل تهمة الفرنكوفونية أو المسحة الفولكلورية لصيقة بمنجز صاحب "بيت العبودية". إنه "كاتب إثنوغرافي"، بحسب بعضهم، ركز على العادات والتقاليد المغربية والتفاصيل الفلكلورية كفضاء للكتابة وكمحتوى لهذا الفضاء، متبرماً في المقابل من أي موقف ضد الاستعمار الفرنسي.

وربما توقُّف الصفريوي عن النشر مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1955 يزكي هذه التهمة. فبعد "صندوق العجب" 1954 لزم الرجل الصمت طيلة 16 سنة، وانتظر إلى سنة 1970 ليصدر "أن تحلم بالمغرب"، وبعدها "منزل العبودية" في 1973، تلتها أعمال أخرى. عزا الكاتب ذلك إلى ضيق الوقت بسبب انشغاله بمهام إدارية، لكنه لمّح إلى أن الطفل الذي كان يسرد أحداث "صندوق العجب" تحوّل إلى شخص آخر في "بيت العبودية" لأسباب سياسية واجتماعية، مشيراً إلى "الفكر الجديد" الذي صار يحمله بعد الاستقلال.

في برنامج تلفزيوني قديم سيردّ الصفريوي لاحقاً على منتقديه: "كانوا يتهمونني بأني ألّفت كتباً سياحية موجهة للأجانب، كان يلزمني أن أقدم الصورة الصحيحة لبلاد أحبّها بدل أن أترك هذه المهمة لكاتب أجنبي قد يتعامل معنا كحيوان يدخله إلى مختبره".

اعتقد الجميع لأكثر من ستة عقود أن الصفريوي هو أول مغربي كتب أدباً باللغة الفرنسية، ويتعلق الأمر برواية "سبحة العنبر" التي صدرت سنة 1949، إلى أن خرج على الناس رئيس المنتدى الثقافي في طنجة أحمد الفتوح برواية مهملة لكاتب مغربي مغمور اسمه عبد القادر الشاط صدرت سنة 1932 بعنوان "فسيفساء باهتة"، ضمن منشورات "المجلة العالمية"، ألّفها الرجل وهو في السادسة والعشرين من عمره، وتحكي رواية الشاط، أو "منسي طنجة" كما صار يعرف لاحقاً عن مغرب العشرينات، بأسلوب سردي يغلب عليه الطابع التاريخي والاجتماعي. ويبرر المقربون من صاحب "فسيفساء باهتة" غياب هذه الحقيقة عن الأوساط الثقافية في المغرب وفرنسا إلى عزلة الرجل وزهده وموقفه الحاسم من الاستعمار.

لذلك ظل الصفريوي هو الرائد طيلة ستة عقود، كما يتجلّى ذلك في المؤلفات النقدية والأنطولوجيات التي تعنى بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، إضافة إلى المقدمات والتحاليل المتنوعة في المدرسة المغربية، فروايته "صندوق العجب" مدرجة منذ سنوات ضمن البرنامج التعليمي في المدارس الثانوية.

بغض الطرف عن ذلك، يبقى الصفريوي المعلّم الأول في تاريخ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. فعدد من الأعمال التي نُشرت في الستينات تأثرت بطريقته في الكتابة، وحتى الذين سعوا إلى تجاوزه تعلّموا منه كيف يقاطعونه، ومثّل بالنسبة لهم شكلاً أدبياً ينبغي أولا فهمه ودراسته من أجل معرفة طريق الاختلاف عنه.

العام المقبل ستحل مئوية ولادة أحمد الصفريوي. ترى، هل سينتبه المغاربة إلى هذا الحدث؟ وهل سيحتفون بالرجل على غرار ما يقع مع كتّاب البلاد التي اختار أن يكتب بلغتها، أم أن الصفريوي سيبقى مختفياً في "صندوق العجب"؟

المساهمون