ثقافة تعزيم وتعاويذ

ثقافة تعزيم وتعاويذ

31 يناير 2015
زياد الحلبي / سوريا (مقطع من لوحة)
+ الخط -

كلما مررتُ بمصطلح أو مفهوم فني حديث بين سطور عربية، وخصوصاً ما تعلّق بالفنون والآداب، يحدث شيء شبيه بالضغط على وصلة، أو Link بلغة الحاسوب، تصلني بفضاء مرجع غربي ما. وأذكر أن الكتّاب العرب الحداثيين، أو الذين ظنوا أنهم كذلك، في ستينيات القرن الماضي، قبل وصول الحواسيب والفضاء الافتراضي، كانت مطالع مقالاتهم أو "أبحاثهم" تبدأ دائماً بذكر ما قاله كاتب أو فيلسوف أو مفكر غربي، في ما يشبه البدء بتعزيم سحري يمنح مقالته المناعة والرصانة والجدية، وربما الخلود.

ويبدو أن هذه المقدمات، الشبيهة بالتعاويذ، غارت في أغوار الخطابات العربية، وتحولت إلى مصطلحات ومفاهيم تتخفّى بهذه الطريقة أو تلك، فلا تعرف مصدرها الأجيال في مقبل الأيام، ولا تحسن التعامل معها، بل قد تحسبها من تراث "الآباء" الإبداعي، وتأخذ بها وتواصل بهذا غفلتها أو غفوتها، مع أن أي تدقيق سيظهر أنها مأخوذة من مجال حضاري آخر، ولم يجر عليها تحوّلٌ في ثقافتنا، ولم تتكيّف مع حاجاتنا الفكرية، فظلت نبتاً غريباً منتزعاً من سياقه.

التعزيم بالهمهمة أحياناً، وإلصاق التعاويذ في مقدّمة أو مؤخرة الخطاب، كما يحدث في مقالات وقصائد وقصص ولوحات كثيرين، يعبر عن نزعة تعويض عن فراغ غائب؛ ويؤدي الإدمان عليها إلى عطالة الفكر، وتعميق عجزه عن توليد مفاهيم ومصطلحات دالة من بيئته، مؤثرة وقادرة على التأثير فيها وتغيير ما يقال أنه بحاجة إلى تغيير في مجتمعات تعرضت لعملية إخصاء فكري ومادي مبرمجة.

لا أعني بهذا أن الثقافات ينمو بعضها بمعزل عن بعضها الآخر، أو يجب أن تكون كذلك، فليس هنالك ثقافة نمت بمعزل عن أخرى. ولكن ما أعنيه أن لكل ثقافة حركيتها الذاتية، ولها تعبيرها الذاتي عن نفسها وعن العالم من حولها، وإن حدث واستعارت، كما حدث ويحدث على هذا الكوكب مذ كان، فما ذلك إلا مقدمة لإحداث تحول يستدخل ما تستعيره الثقافة ويخلقه أو يعيد إنتاجه.

لا أستطيع أن أنسى أن الفنانين الغربيين المحدثين هم أول من كشف عن إنسانية الحضارات الأخرى التي شوهتها الحركة الاستعمارية، واستدخلوا مفرداتها الفنية في فضاء ثقافتهم الغربية.

 وحين أنظر إلى فن قبائل الزولو، وتحديداً أشكاله النحتية التي هي عبارة عن رماح متفاوتة الأطوال تقوم على قاعدة، تقفز إلى ذهني فوراً تماثيل جياكومتي الإيطالي. وحين تأخذني تكعيبية بيكاسو وتماثيل هنري مور إلى غربي أفريقيا، لا أسمي هذا التأثر نقلاً أو استخدام المفردات الفنية كما لو أنها تعاويذ، بل أراه تفاعلَ ممكنات ثقافة حية مع ممكنات ثقافات أخرى.

ما حدث في علاقة الثقافة الغربية بالثقافات الأخرى التي أخذت منها كثيراً، هو استدخال وتحويل. في المقابل، نجد لدينا استقداماً لا استدخالاً. من هنا، تتم استعارة المصطلحات والمفاهيم وإدراجها في سياق لم توضع له ولا نبعت منه، فيظهر كل هذا غريباً في سياقنا العربي وغير مفهوم.

المساهمون