عزيز أبو علي.. ملامسة الفراغ في صفائه

عزيز أبو علي.. ملامسة الفراغ في صفائه

31 يوليو 2014
+ الخط -

مرور عقدين على رحيل الفنان المغربي عزيز أبو علي (1935 ـ 1994)، مناسبة لاستعادة مساره الفريد والمليء بالإنجازات. أحد الأسماء الفنية التي صنعت لنفسها شهرةً تستحقّها بفضل موهبتها وسلسلة مصادفات موضوعية. 

وُلد أبو علي في أسرة مراكشية فقيرة ولم يتسنَّ له إتمام دراسته، بخلاف أقرانه في مغرب الثلاثينيات. وبعدما استحال عليه الاستمرار في العيش تحت سقف العائلة، وجد نفسه في إحدى لحظات العسر مدفوعاً إلى مغادرة مدينة مراكش نحو الشمال، لتجريب موهبته العصامية الفذة داخل حجرات "مدرسة الفنون الجميلة" في تطوان، وكان على رأس هذه المؤسسة الإسبانية الفنان الغرناطي ماريانو بيرتوتشي، الذي لم يكن يشترط على الراغبين في الانتساب إلى محترفاتها سوى امتلاك بوادر موهبة فنية ورغبة حقيقية في التعلّم والاستزادة من الخبرات التي كان يقدمها الأساتذة الإسبان فيها.

وبعد مرور ثلاث سنوات من التحصيل والتمرين، انتقل أبو علي عام 1968 للدراسة في "المدرسة العليا للفنون الجميلة سانتا إيزابيلا" في إشبيلية، أُسوةً بعدد من الفنانين المغاربة الذين كان بيرتوتشي يلمس فيهم موهبة فنية قابلة للتطوّر فيسهّل التحاقهم بالمعاهد الإسبانية العليا. ومن إشبيلية التي قضى فيها ثلاث سنوات، انتقل أبو علي إلى مدريد، وتحديداً إلى مدرسة "سان فرناندو"  للتخصّص في مجال التشكيل الجداري، والحفر بكل تقنياته على وجه الخصوص.

وفي العاصمة الإسبانية، أمضى الفنان ثلاثين سنة مجرّباً كل ما تجود به الطابعات الحفرية، على اختلاف أحجامها وإمكاناتها التقنية واللونية، قبل العثور عليه جثة هامدة في حجرته. فترة طويلة تمكّن خلالها من بلوغ ومعاشرة النخبة الفنية الإسبانية، ومن فرض اسمه وعمله في مجال الحفر طبعاً، وأيضاً في التصوير الصباغي على الورق حصراً.

وبعد حياة قصيرة نسبياً لكن حافلة بالعطاء الفني والتجديد، وبعد عقدين على رحيله، ماذا بقي من أبو علي اليوم؟ الشيء الكثير من دون شك، ولا نقصد فقط أعماله الفنية التي جُمِع أغلبها لحسن الحظ، ما جنّبها آفة الضياع وجذّرها في الذاكرة الفنية المغربية، وبل أيضاً وخصوصاً لمسته الفنية العميقة، الرفيعة والعالمة. لمسة قدرية فريدة انبثقت من يد الفنان مثلما تنبثق الأعشاب البرية من الأرض البور، باعثةً الحياة في الموت، ومبهجةً الأرواح التواقة إلى استكناه بواطن الجمال وخصوصيات وأصالة الأسلوب الفني.

في مجمل أعمال أبو علي التي أتيح لنا الاطلاع عليها بفضل الناشر والمجمِّع المغربي رشيد الشرايبي، ثمة آلة نشطة للخيال، الخيال بما هو مخاطرة وسفر في المجهول؛ أي في تلك المناطق التي تبقى بحاجة دائمة إلى قدمٍ بارعة لتجاوز الخوف والتغلب على المثبطات، والخوض في التجريب الأقصى والأقسى على حد سواء. وقبل أي شيء، ثمة خطاب موسوم بالكآبة؛ كآبة الفنان وقد لامس الفراغ في صفائه، والعزلة في مختلف تلاوينها وبيانها وشفافيتها.

فسواء تعلّق الأمر بالأعمال الحفرية أو الصباغية، ثمة حضور طاغ لشخوص بلا ملامح ولا أطراف، شخوص تجسّد حالة وجودية مفارقة، تقتات على النقصان وعلى فراغ القيم والمشاعر والآفاق (هي غالباً شخوص الفنان أو شخصه المتكرر)، شخوص رآها الباحث المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي "معصوبة باليأس"، وهي بذلك تجسّد "حالة من التحجر"، بعيداً ـ في جانبها التقني ـ عن الإعمال الزخرفي، الذي قد يخفف من تداعيات التشذر والبتر والنقصان، بما هي حالات لا تسعد العين المتعوّدة على مجانية الفرح، إن في الأشكال أو الألوان والخطوط أو العلامات.

من هنا، تبرز أعمال أبو علي متّكئة في موضوعها على القليل القليل من الإيهام الفني، وهي بذلك تأخذ مسافة ـ بوعي فني ونضج معرفي ـ عن ذلك الاستعمال المجاني لعدد من الخدع الفنية المكرورة والجاهزة، إن في جانبها اللوني أو الموضوعاتي. وبالتالي، لا تنهض هذه الأعمال، في جانبها التكويني، على تلك الاحتفالية اللونية التي عادة ما تطغى على فلسفة العمل الفني وعلى مسعاه الجمالي المؤسس للذوق، وإنما تعمد، في علاقتها البنائية بعنصر الضوء، وبغير قليل من المهارة التلوينية الإقلالية، إلى استثمار كيمياء اللون الواحد في كثافته وإمكاناته التدرّجية، لبناء الفكرة أو إرساء الخطاب، كحضور وهيمنة اللونين الأزرق النيلي بمختلف تجلياته، والأحمر الآجوري، في معظم ريبيرتوار هذا الفنان، باعتبارهما لونين أوليين يختزلان الحالة ونقيضها، فيما يشبه تنازع الرغبات وعدم وضوح المآل.


وإلى ذلك، يبدو أيضاً مسعى هذا الفنان الجمالي واضحاً في عنصر آخر لطالما كان منطلقاً للعديد من التجارب الفنية العربية الإسلامية عامةً، والمغربية على وجه الخصوص، ونقصد طغيان الاستثمار الفني في العلامة باعتبارها عنصراً تشكيليا قائما بذاته. ذلك أن أعمال أبو علي لا تحفل كثيراً بهذا العنصر التشكيلي المعطى، أو بالأحرى الموروث في الثقافة العربية الإسلامية، على غرار الحضارات الآسيوية القديمة، وإنما هناك نوع من تدبير تلك المسافة الفاصلة والمفترضة بين التشخيصي والتجريدي، بما يخلق نوعاً من التجسير الفني بين ضفتي هاتين القارتين الجماليتين في بعدهما الأكاديمي الصرف، وذلك في أفق ملامسة ما يسميه الناقد سمير ذكي بالتجريد غير الأيقوني الذي لا يمثل الموضوعات أو الأشياء ولا يرمز إليها في الوقت نفسه.

ولعل هذا الأمر هو ما يجعلنا نعتبر أن عزيز أبو علي كان صانع نسقٍ، أو أقله صاحب فكرة فنية مغامرة، لم يَدَّعِ يوما امتلاكه أحقية وجودها أو ملكيتها الخاصة، على صعيد التجربة الصباغية المغربية على الأقل، وتلك ـ في تقديرنا - عادة الكبار، وإنما بادر إلى حفر أراضيها، ورسم بعض معالمها، وترتيب بعض شؤونها التقنية الممهورة بحِرفية كبيرة ونضج معرفي ثابت، بما يتطلبه ذلك من حفر ومثابرة وابتعاد عن السائد والمألوف والمعطى المكرَّر.

المساهمون