أبو بكر كهّال.. غرفة تخص إريتريا

أبو بكر كهّال.. غرفة تخص إريتريا

31 يناير 2015
+ الخط -

"تعلمت قراءة الكتب في غابات إريتريا". هكذا يقول الكاتب أبو بكر كهّال (1961) الذي التحق بـ "جبهة تحرير إريتريا" في فترة مبكرة من حياته، إلى جانب الآلاف من الشباب الذين كانوا يقاتلون لانتزاع حرية وطنهم:

"في الغابة – بجانب ساحة التدريب - عثرتُ على المكتبة المصنوعة من الشجر والمموهة بالأغصان والأعشاب. قرأتُ حينها مذكرات تشي غيفارا وبعض الكتب المتوفرة في الشعر والرواية، إضافة إلى الكتب الماركسية المترجمة إلى العربية".

وبينما كانت طائرات العدو تحلّق فوق سماء المعسكر، كان كهّال يتسلل إلى المكتبة ليقرأ ساعة أو ساعتين قبل أن يحل الظلام في زمن لم تكن فيه الإنارة متوفرة. يقول لـ "العربي الجديد": "في البداية، لم تكن لغتي العربية بالجودة الكافية. كنت أخمّن معاني المفردات الغامضة من السياق العام للجمل. لكنها كانت قراءة سليمة إلى حد ما. بعد ذلك، أصبح يُطلب مني - في أوقات التثقيف السياسي - قراءة المنشورات ومختارات من أدبيات الجبهة أمام حلقات المقاتلين".

تجربة كهّال في النضال الوطني لم تكن طويلة – على حد تعبيره - مثل تجربته مع المنفى. فقد قادته الغربة إلى الإقامة طويلاً في ليبيا التي تحتل مكانة خاصة في قلبه. وبعد الاستقلال رفض العودة إلى الوطن:

"لم أخدع بشعارات الدكتاتورية البرّاقة في أسمرة، كانت الأمور واضحة منذ البداية". وقد تحققت نبوءته، فتم جرّ الكثير من المناضلين إلى السجون والمنافي، وأدارت السلطة ظهرها لشعارات الثورة ومبادئها. أما هو فقد حال تدخل أصدقائه أكثر من مرة دون تسليمه إلى السلطات الإريترية. يقول: "لقد كان المثقفون الليبيون دائماً إلى جانبي في كل المواقف الصعبة".

وبعد سقوط نظام القذّافي، وجد نفسه في مخيم الشوشة على الحدود التونسية، في ظروف معيشية قاسية كابدها طيلة ثمانية أشهر، ما دفع الأدباء والكتّاب التونسيين إلى تبني قضيته، وقاموا بتكريمه داخل المخيم، قبل أن يهاجر إلى الدنمارك كلاجئ سياسي. يضيف: "وقتها عرفت قيمة أن يكتب أفريقي بالعربية".

صدرت لكهال روايتان هما "رائحة السلاح" و"بركنتيا". وقد لقيتا تشجيعاً في الأوساط النقدية العربية وترحيباً في بلده إريتريا. غير أنّ عمله الأخير، "تيتانيكات أفريقية" (2008)، يعدّ الأنضج في تجربته الروائية، كما اعتبره بعض النقاد أول رواية إريترية – بالعربية - مكتملة فنياً. الرواية الصادرة عن "دار الساقي" حققت نجاحاً مقبولاً لدى القرّاء العرب.

تتناول الرواية فكرة الهجرة "غير الشرعية" لمجموعة من الأفارقة عبر الصحراء والبحر. وحول هذا الموضوع، يرى الكاتب أن الميديا عجزت عن تصوير الجانب الأعمق في قضية المهاجرين. لذلك، سعى إلى الإجابة عن السؤال الأكثر تراجيديةً في هذه المأساة: "سعيت إلى تصوير هواجس المهاجر الذي يتعثر بعظام من سبقوه في الصحراء، وإلى فهم ما يدور في مخيلته عندما يتحطم قاربه في عرض البحر ويجد أنّ المياه تسحبه إلى الأسفل".

وعن عنوان الرواية المستوحى من قصة الباخرة "تيتانيك" الشهيرة، يقول: "هذا الاسم متداول بين الإريتريين، يطلقونه كشيفرة، أثناء التحضيرات، على القوارب المستخدمة للهجرة. ورغم دلالة الاسم المرتبطة بالموت، فإن هناك دائماً من لا يتردد بالقفز إلى متنها متجاهلاً المصير المجهول الذي ينتظره".

وعن الحضور الدائم للأسطورة في أعماله، يقول: "لا أتقصّد إضفاء الغرائبية على أعمالي، لكنني نتاج طبيعي لمكونات ثقافية متشعبة، فأنا ابن ثقافة عربية مصهورة بالثقافة الإريترية الشفهية المليئة بالحكايات الشعبية. ولدي الجانب الأفريقي الغني بأساطيره وآلهته وسحرته".

يقيم كهّال، اليوم، في شمال الدنمارك كلاجئ سياسي، ويمضي يومه في عزلة شبه تامة عن الناس. يعمل على رواية جديدة تتناول تاريخ إريتريا قبل الاستعمار الإيطالي. وحدها إريتريا تبقى حاضرة معه، ترافقه في غربته:

"في بلدي، يحارب النظام القمعي الثقافة العربية، وأغلب الأعمال المكتوبة بالعربية تصدر في الخارج نتيجة التضييق الذي يُمارس على المثقف الإريتري. يكفي أن نشير إلى أن الشاعر محمد مدني الذي ارتبطت قصيدته بالنضال الوطني يعيش في المنفى. كما أن القاص إدريس أبعري يقبع في السجن منذ سنوات فقط لأنه احتج على التهميش المنظّم للعربية الذي تمارسه حكومة أسمرة".

يكتب كهّال قصة إريتريا كل مرة بشكل مختلف، كأنه ينظر إلى بلاده من كل زاوية. مثلما قال مرة في إحدى رواياته: "بحث عن ورق أبيض في الأدراج فلم يجد سوى ورقة واحدة مجعلكة، فردّها بحرص، وتهيأ لكتابة قصة ظلت تضغط عليه منذ زمن. بداية انتزع عينيه وثبتهما في وسط أعلى الصفحة كعنوان للقصة. عمد بعد ذلك إلى استلال لسانه ووضعه فوق أول السطر... سمع لسانه يشتم بصوت نزق ويقول له: تعال! ارجع.. القصة لم تكتمل بعد".

دلالات

المساهمون