يوسف عمر.. في مقام الأسى

يوسف عمر.. في مقام الأسى

31 اغسطس 2014
+ الخط -

مرّت هذا الشهر الذكرى الثامنة والعشرون على رحيل مغني المقام يوسف عمر (1918- 1986) بصمتٍ جائر لكونه أحد أبرز الأصوات التي أبدعت في مجال هذا الفن. وفي استعادتنا لسيرته الشخصية بهذه المناسبة، نستعيد أحزاناً عراقية صافية.

عمر الذي كان يغني بصوت مشروخ وبحّة دمغا كل تسجيلاته، بدأ مشواره في الثلاثين من عمره، في الوقت الذي كان فيه كل رفاقه قد صاروا من المشاهير. حين سئل "أين كنتَ كل هذا الوقت"، أجاب "كنت أستمع". لكنّ البحث في سيرة الرجل يرينا أنه كان في السجن. 15 عاماً كاملة بتهمة القتل. وهي السنوات التي تكوّنت فيها شخصيته الغنائية وثقافته الموسيقية، لا سيما في المقام العراقي.

قصة السجن التي ظلّ طوال عمره يراها ظلماً، وظل ينفي ارتكابه فعل القتل، تعود إلى نشأة بائسة فعلاً. فالفتى الذي فقد والديه وعاش اليتم في كنف أعمامه، كان ضحية سهلة قُدّمت كقربان بعد جريمة قتلٍ ذات طابع عشائري، اقترفها أحد أقربائه. وحين جاء القصاص قدّم الأقرباء هذا الفتى اليتيم بديلاً عن المجرم الحقيقي.

قبل هذا اليُتم والظلم، كان عمر قد فقد حبيبة صباه، ابنة خالته. ففي ذلك اليوم المشؤوم، كان ينتظرها على ضفة دجلة، حيث كان عليها أن تأتي بزورق. لكنّ الحبيبة غرقت، ولقاؤه العاطفي كان مع جثتها.

هكذا صار النهر الذي يقسم المدينة إلى كرخ ورصافة، يقسم قلبه في أول اختلاجته.

بعد اليتم والسجن وموت الحبيبة، تحوّل عمر إلى مدمن كحول. لا شيء يخفف من أحزانه وأساه إلا الخمرة وغناء المقام. لهذا إذاً كان الرجل يستمع، كما قال. لكنّ الاستماع لم يقتصر على ما هو تثقيفي فحسب، بل امتد أيضاً ليصل إلى تجربة ثقّفت صوته وقلبه بالألم.

بعد سجنه، وصل يوسف عمر إلى الإذاعة العراقية، وقُبل كمغنٍّ فيها. وخلال تلك الفترة، ترك العديد من التسجيلات بصوته لمقامات الرست، السيكاه، البيات، إلخ. لكنّ الشهرة الحقيقية أتت من الجلسات الغنائية التي كان يقوم بها مع الأصدقاء، ولعلّ من أشهرها الجلسة التي غنّى فيها قصيدة الشاعر البغدادي عبود الكرخي "مات اللمبجي"؛ قصيدة كتبها الشاعر في رثاء أكبر قواديْ بغداد في القرن التاسع عشر، وحوّل فيها مرثية القوّاد مرثيةً لعصر بكامله.

وفي تلك الجلسة، قرأ عمر القصيدة البذيئة مقامياً من دون أن يعرف أن آلة التسجيل كانت تدور في تلك اللحظة، ما أحدث فضيحة كبرى اعتُبر المغني على أثرها رجلاً متهتكاً، علماً أنه كان يؤدي قطعة من الفلكلور الذي يردّده كل العراقيين. ولعل هذه القصيدة تكاد من نوادر الغناء العربي الإيروسي الحديث.

شكّل عمر ثنائياً مع صديقه، شعوّبي إبراهيم، عازف الجوزة، وعملا معاً على إزالة كل الكلمات الغريبة من الغناء المقامي. وحين توفي عمر كتب عنه شعوبي:

يا صاحب الصوت الجميل لقد بكى

حزناً عليك الرستُ والأوشارُ

وبكى عليك بحرقة وبحسرة

العودُ والقانونُ والقيثارُ

فن المقام الذي عُرف على يد الملا عثمان الموصلي كمؤسّس في العصر الحديث، تطوّر على يد محمد القبانجي، ووصل إلى ذروة الإبداع عند ناظم الغزالي ويوسف عمر، لكنّ الأخير لم ينل حقّه من الاعتراف.

المساهمون