حين دقّقت النظر أكثر

حين دقّقت النظر أكثر

04 مايو 2016
مؤيد محسن/ العراق
+ الخط -

كان البيت غريباً، مريباً، مُعلقّاً بين السماء والأرض، تلفّ جدرانَه الوحشة الباردة، وتطلُّ نوافذه على فراغ غامض. لم يطرق بابه، ظل ساكتاً طيلة الوقت منذ أن ظهرت فيه تلك السيدة العجوز.

لا أحد معها، إلا هوايتها الوحيدة، "جمع الصور المجزّأة"، تكوِّم قطعها فوق الطاولة، ثم تنهمك في تركيبها، وكلّما نجحت في وضع قطعة في مكانها المناسب، تشعر بخوف شديد، لشدّة اهتزاز جدران الغرفة، كأن شيئاً ضخماً يحاول هدم البيت.

هكذا، أمضت تلك الليلة الأخيرة من عمرها، تُعيد بناء هذه الصورة الأحجية، من دون أن يقاطعها أحد، فالباب لا زال ساكتاً، والجدران تلفّها الوحشة الباردة.

هذه الليلة بالذات، بدأ المطر ينقر زجاج النوافذ، وبدأت ارتجاجات متقطّعة تهز البيت، لاحظت العجوز أن هذه الاهتزازات تعود، كلما أضافت جزءاً جديداً إلى الصورة الناقصة، لكن إحدى القطع التي أضافتها هذه المرة، جعلتها تشعر بخدر غريب في أعلى جسدها وألم غير مسبوق يجتاح كامل أعضاء جسدها النحيل، لكنها لم تكترث، بل أكملت عملها بتركيز شديد، كأنها تغوص بسرعة مذنّب تائه إلى حياتها البعيدة، إلى تلك التفاصيل البعيدة في بيتها الدافئ ثم تعود مستحضرة معها ذكريات بعيدة، تنجح في لصق قطعة أخرى لتكمل الصورة، فتتحرّك المقاعد هذه المرة نحوها بشكل غريب، تريد أن تحطّمها، تشعر أن أقدامها توقّفت عن الحركة، كأن زلزال يضرب البيت ثم يتوقّف.

فجأة، تستمر في تركيب الأجزاء بأصابعها المرتجفة، وكلما نجحت في لصق واحدة أخرى، يتوقّف عضو آخر عن العمل في جسدها، وتستمر الغرفة بالاهتزاز، والثريا من فوقها يرتعش ضوؤها.

العجوز، وبعد أن ألصقت الجزء الأخير من الصورة، أصابها الذهول حين رأت أن الصورة التي جمعتها هي صورة غرفتها.

حين دقّقت النظر أكثر، رأت نفسها تجلس على طاولة في الصورة، وفجأةً التفتت نحو الأعلى، فإذا برجل ضخم كالمارد، يحدق فيها بعينين ضخمتين، ويمدّ يده الضخمة بحذر، يحمل بيده قطعة من السقف، لكن آخر ما سمعته تلك السيدة العجوز، هو صوت تكسّر الزجاج.

 * كاتب من الأردن


المساهمون