ماذا فعلنا بوطننا يا خوسيه إيميليو

ماذا فعلنا بوطننا يا خوسيه إيميليو

27 مايو 2016
(فرناندو ديل باسو، تصوير: رفيوغيو رويز)
+ الخط -
"أنا لا أُحِبُّ وَطني.

مَجدُهُ المُجرَّدُ
يُفْلِتُ مِنّي".

هذه هي كلمات إحدى القصائد الأجمل والأشجع التي عرفتها. كاتبها هو خوسيه إيميليو باتشيكو. يضيف الشاعر بعدها مباشرة:

"ولكنّي (مع أنّ قولي هذا قد لا يُبشِّر بالخيرِ)
سَأُعطي كُلّ عُمري
مُقابلَ عَشرَةِ أَمْكِنةٍ مِنهُ،
أناسٌ مُعيّنة، موانئ، غابات، صحارى، قلاع،
شظايا هذه المدينة، الكئيبة، العملاقة،
بعض شخصيّاته التاريخيّة،
جباله،
وكذلك ثلاثة من أنهره أو أربعة".

هذه المناسبة، والتي من أجلها قدمتُ هنا، إلى مِريدا، لقبول وتسليمي جائزة أدبيّة تحمل اسمك، خوسيه إيميليو، أريد اغتنامها لأقول لك بعض الأشياء، لك أنتَ يا مَن كُنتَ صديقي وزميلي كلّ هذه السنوات، لا سيّما أنت الذي كنتَ شاعرًا كبيرًا وموضع إجلال بالنسبة لي، عزيزي الشاعر العرّاف.

أريد أن أقول لك إنّني أنا أيضًا أحببتُ، على طريقتك، هذا الوطن ذا بعض الغابات والأنهر، موطن هذه المدينة العملاقة التي كانت مهدك ومهدي.

أريد أن أقول لك ما أنت على دراية به أصلًا: وأنا كذلك يؤلمني حتى النخاع بلدنا الصغير، وطننا الطيّب، وهو يتراءى لنا منهارًا ليعود ويكون ذلك الوطن المراوغ، ذلك الوطن الهمجيّ والمتوحّش الذي عرفناه في كتب التاريخ فقط.

أريد أن أقول لك بأنّي، وأنا على عتبة الثمانين، بأنّي أخجل من نفسي وأنا أتعلّم لفظ أسماء قرى مكسيكيّة لم أتعلم لفظها في المدرسة، بل أعرف بها الآن، فقط، عندما يُقترف فيها ظلم فظيع، عندما يجري فيها الدم: شينالو، أيوتسزينابا، تلاتلايا، بيتاكيّاس... يا للخجل، بل يا للعار، بأننا لم نسمع بها إلّا وهي تدخل تاريخ بلادنا تسبح بالفاجعة!

ويا للخجل، أيضًا، بأنّنا، ونحن ختايرة، نتعلّم أنّ الرّاراموري والتريكيس مازاتيكاس هما اسمان لشعبيْن مكسيكيّيْن لم يخبرنا أحد بهما من قبل، نعرف بهما أوّل مرّة عندما يقعان ضحيّةَ اعتداء أو تهجير لا تشنّهما الشركات الأجنبية فحسب، بل سلطاتنا المحليّة أيضًا!

من الصعب تصديق مضيّ هذا الوقت الطويل، خوسيه إيميليو، ولم نتعلّم بعد كيف نحمي شرف هذا المجد المجرّد الذي كان يغذّي شغفنا بالوطن.

يا للخجل، بل يا للعار!

حبيبي خوسيه إيميليو: لا تسألني عن الوقت كيف يعدو بسرعة؛ رحلت عنّا منذ أكثر من عام بقليل وفاتتني فرصة التحدّث معك عن الكثير من الأشياء كما وددتُ. أعترف بأنّني كنت قارئًا سيئًا لأعمالك وأنا نادم على ذلك. لكنّي الآن مستعدّ لملء هذا الفراغ من خلال تذكّر كلماتك ووجودك ووضوحك.

لم أسأل نفسي أبدًا مثلما أسألها اليوم: ماذا فعلنا بوطننا، يا خوسيه إيميليو، في أيّ ساعة ومتى أفلت من بين أيدينا ذلك الوطن الطيّب الذي بذل غيرنا في سبيل تشييده وصيانته الكثير من العرق؟ قلْ لي، خوسيه إيميليو، نعم، قلْ لي في أيِّ لحظة بدأنا بنسيان حقيقة أنّ الوطن ليس مُلكًا لحفنة من البشر، بل ينتمي لجميع أبنائه بالتساوي: ليس فقط لأولئك الذين نغنّي من أجلهم وبالتالي نشعر بالفخر لذلك: بل أيضًا لأولئك الذين يعانون من أجله بصمت.

لقد قلتها في إحدى قصائدك: الفقراء، آجلًا أم عاجلًا هم، بالجملة، سيرثون الأرض. هذه كانت دعوتك لنا لنتأمّل في صبرهم. ولكن... إلى متى يا خوسيه إيميليو، إلى متى؟ يبدو أنّ هذا اليوم لن يأتي أبدًا: يوم الحشر، كما قلتَها في إحدى قصائدك، لم يفسح الطريق للبريك الإعلانيّ بعد، والقنطور والحريش لم يبعثا من قبورهما حتى الآن.

عندما وصلني خبر تتويجي بجائزة تحمل اسمك، خوسيه إيميليو، غمرتني فجأة قافلة من الذكريات. كنّا في عزّ شبابنا، وحياتنا كلّها، بل وطننا كلّه، كان أمامنا… ولكن قلْ لي، أيّ وطن كان ذلك؟ وطن آبائنا، وطن أجدادنا، أم وطننا نحن فقط؟

كنّا شبابًا، صحيح، وكنا نحمل مسؤولية القيام بواجب كبير: الاعتناء بالتراث الذي ورثناه، ذلك التراث الذي بات مهدَّدًا بالاندثار العديد من المرّات. قلْ لي، خوسيه إيميليو: هل قمنا بالواجب؟ البلد اليوم يعاني الفساد والجريمة المستشرييْن في كلّ مكان، فهل كان التنديد الخامل كافيًا؟ هل كان سرد الأحداث وغِنائها كافييْن من أجل تحقيق نصرة العدل؟ أمِنَ الأخلاقيّ قبول الجوائز على أعمالنا الأدبيّة والاكتفاء بتبادل الشكر أمام الجمهور، مثلما أفعل الآن؟ لا أعرف. لكن من الجدير أن نطرح السؤال حول ما إذا كان موقفنا يصلح لشيء ما.

”شيء ما ينكسر في كلّ مكان”.، قلتَها في إحدى قصائدك. شيء ما، صحيح، قلبي وأنا أشاهد كلّ ما يحصل حولنا، وتنكسر كلماتي. يا خوسيه إيميليو، لا أعرف لماذا أحرج نفسي بهذا الشكل، في حين المطلوب منّي هو مجرّد الصعود إلى المنصة وقبول الجائزة! لكن ليس بمقدوري الصمت أمام مشهد أشيائنا وهي تنكسر.

ماذا حصل لمكسيك ما بعد 1968؟ أين هو مشروع بناء الدولة اليوم… ما هي تصوّرات وآفاق أولئك الذين يدّعون أنهم حكّام البلد؟ اِسمحْ لي باقتباسك مرّة أخرى: "أنا أعرف بلدك جيدًا -قال لي السائح الوافد من أمريكا الشمالية- لقد سبق وقضيت ليلة في تيخوانا/ هناك كلمات تعلّمت أن أجيدها بلغتك:/ شرموطة، لصّ، النجدة، سرقوني". فما الفرق بين هذه الكلمات وكلمة "سياسيّ، السلطة، إغاثة، ابتزّوني بالمال؟"

ماذا فعلنا بوطننا المعصوم والعنيد يا خوسيه إيميليو؟ أقولها من جديد، خوسيه إيميليو: لا تسألني عن الوقت كيف يعدو بسرعة. أنا إنسان عجوز ومريض، أعرف ذلك، لكنّي لم أفقد صوابي بعد: أنا على دراية بمن أنا، بمن كنت أنت وبما أفعله في هذه اللحظة وبما أقوله. الأمر الوحيد الذي لست على دراية به هو في أيِّ بلد أعيش. لكنّي أعرفها جيّدًا رائحة الفساد تلك؛ قلْ لي، خوسيه إيميليو: في أيِّ ساعة، متى، تركنا البلد يَفسُد حتى النخاع؟ في أيّ ساعة تلُفَ بلدنا وهو ما يزال بين أيدينا ليصبح ضحية الجريمة المنظّمة وتجارة الناركو والعنف؟

قل لي، خوسيه إيميليو: ما الفائدة من استلام الجوائز والعرفان هنا وهناك بينما صيت بلدنا بالعالم يتشوّه يومًا بعد يوم؟... بينما المكسيك يتمَكْسَكُ أكثرَ ليصبح طبقَ أصل الصورة التي يظهر بها في أفلامه وأساطيره الأكثر سوادًا؟

قلْ لي، خوسيه إيميليو: ماذا سنفعل، بل ما الذي يمكن فعله وهناك ثلاثة وعشرون ألف حالة اختفاء قسريّ حصلت خلال آخر كم سنة؟ أم هم ثلاثة وعشرون ألف ثلاثة وأربعين؟ وهل يمكننا الوصول إلى الجاني أصلًا؟ أم علينا خلق الجانيّ بواسطة التعذيب، كعادتنا؟

خوسيه إيميليو: لا أعرف ما اقوله لك أكثر. لا تعرف كم أنا حزين. ها أنا أقبل الجائزة التي تحمل اسمك لأنّ لا شكّ عندي بحسن نيّة مانحها، لكنّي لن أمرّ مرَّ الكرام على ما هو أهمّ من الحصول على الجوائز حتى ولو كانت حقًّا لمستلمها، أي، لن أصمت أمام الظلم الذي يحيطنا.

اللغة التي أخاطبك بها، خوسيه إيميليو، هي بلا شكّ اللغة الإسبانيّة، هذه اللغة التي فرضها الغزاة علينا بحدّ السيف والنار، وهي الآن لغتي كما هي لغتك مثلما هي لغة أيّ شخص يسكن قلب إسبانيا نفسها، لكنّي أعتقد أنّ من العار أيضًا أن نضطرّ لنعيش كلّ هذه السنوات لندرك، فيما بعد، أنّ هناك أكثر من سبعين لغة حيّة في بلادنا، كلغتيْ الويشاراكا والكيكابو، لا نسمع بها إلّا حين تصبح إحدى قرى السكّان الأصليّين الذين يتحدّثون بها معرّضة لعمليّات تهجير أو تدنيس لقدسيّة أراضيها، أو حين يُلوّث نهرها، بل أنهرها التي تمدّ أراضي هذه القرى بالحياة، وهذا يحصل بأيدي إحدى الشركات الأجنبيّة لاستخراج المعادن، أو بسبب إهمال سلطاتنا، أو عبر تطبيق تقنيّة التصديع الوحشيّة لاستخراج البترول أو الغاز الصخريّ، ما يُهدّد بالقضاء على الملايين من اللترات من خزاناتها المائيّة.

لا يتبقى لي، خوسيه إيميليو، سوى الوداع، ولهذا الغرض سأستعمل اللغة الثانية التي تُحكى في هذه المدينة المُضيفة، مِريدا الجميلة، أيّ لغة المايا:

Nib óolal José Emilio nib óolal ti’tuláakale’ex kexi’ kak ilikba’ex u láak juntéen le ken ktia’alinte’ex México tuka’atéehe’

شكرًا، خوسيه إيميليو، وشكرًا لكم جميعًا. أتمنّى أن نلتقي مرّة أخرى عندما يعود بلدنا ليصبح لنا من جديد.


[1] أي إلى المكسيك ما بعد انتفاضة حركة طلاب المدارس والجامعات عام 1968، والتي انتهت بمذبحة قُتل فيها أكثر من 300 طالب مدرسيّ وجامعيّ في ساحة تلاتيلولكو في العاصمة، يوم الثاني من تشرين الأول في ذلك العام. عن تأثير هذه الحركة على وعي المكسيك الحديث وحياته السياسيّة، تُنظر مقالة "أن تكون شاعرًا يعني أن تضحّي بكلّ ما لديك"، حوار مع الشاعر دابيد ويرتا في مجلة "أخبار الأدب" القاهريّة، الثالث من يناير 2015.

[2] هنا، كما في أماكن أخرى من الخطاب، يستخدم ديل باسو عبارات ترد في قصيدة "الوطن الطيّب" للشاعر المكسيكي رامون لوبيس فيلاردي (1888 - 1921).

[3] الإشارة إلى أحداث ليلة السادس والعشرين وفجر السابع والعشرين من أيلول 2014 في مدينة إغوالا في ولاية غرّيرو، حيث هجمت قوّات مسلّحة من الشرطة على طلاب من كلّية النورمال للمعلّمين الريفيّين من بلدة أيوتزينابا المجاورة، اختفت فيها آثار 43 من الطلاب وقُتل تسعة أشخاص خلال الاشتباكات.


*فرناندو ديل باسو (المكسيك العاصمة، 1935)، روائيّ وشاعر ورسّام. من رواياته "خوسيه تريغو"، "بالينوروس ابن المكسيك" و"أخبار الإمبراطوريّة" (1986)، وهي روايات تاريخيّة تدور أحداثها خلال حقبات عدّة من تاريخ المكسيك المعاصر. كتب أيضًا المسرحيّة الشعريّة "الموت يغادر صوب غرناطة" (1998)، عن حياة الشاعر فيديريكو غارسيّا لوركا، حصل على جائزة سرفانتس للآداب لعام 2016.
** ترجمة عن الإسبانية شادي روحانا


المساهمون