رياض نعمة: معبر بين ذاكرتين

رياض نعمة: معبر بين ذاكرتين

28 يناير 2016
(من المعرض)
+ الخط -
للوجه هيئة الأرض المتبدّلة من حال إلى حال، وللوجه لون الدم المُراق وكثافة لزوجته المبثوثة هنا وهناك، الوجه مستودع خام وأمين للذاكرة، والوجه ساحة نادرة ومتفرّدة لصراعٍ وعرٍ. بهذه الكلمات الوصفية المختزلة، ربما، يمكننا اختصار أثر لوحات معرض الفنان العراقي رياض نعمة (1968) على متلقّيها.

تحاكي بورتريهات نعمة، المعروضة حالياً في "غاليري Art on 56th" في بيروت، مشهدية الصورة الفوتوغرافية وتتجاوزها من دون أن تدّعي قيامها بوضع حد فاصل بين الوجه وحكايته الشخصية، بين قوّة الصورة وهشاشة اللحظة. إنها إنما تثبّت التأمّل على لحظة نفسية وعلى جزء ملموس من ملامح الوجه، وتجعل من هذه اللحظة وهذا الجزء معاً عالماً قائماً بذاته.

تبني اللوحة - البورتريه، وفق هذا المنحى المركّب من عوالم النفس وهيئات الشكل، على الصورة الملتقطة خليطاً من الألوان والبقع كي تجعلها أقدم وأكثر درامية وقرباً وحسّية. للوجه حكاية هنا، وهو عبر تدوين الحكاية وقد تحوّلت لوناً يُفصح عن نفسه ويلصق بعضها ببعض، كما لو كان يلمّ ما سقط عنه من قبل. الصورة الذاتية كما تبدو في الفوتوغراف لا تكفي ما لم تُلطّخ بالذاكرة، حتى إن كانت قاسية ومريرة.

صورة الجندي، مثلاً، تذكّر بالعنف الذي غمر العراق حتى اليوم، لكن الجندي نفسه يبدو كذلك منسيّاً خلف نموذجه وخلف صورته التي تكاد تتحوّل إلى قناع. غير أنها تقدّم لنا الخلاصة الفردية لما هو جمعي وعام وغير مرئي وغدا ربما طي النسيان. الوجه يختصر هذه العلاقة الشائكة ويلج العمق، من حيث يظهر السطح المشبع بألوان قوية ومساحات صاخبة.

على هذا المنوال، يختار نعمة صور لوحاته بعفوية، من وجوه أصدقائه أو ممّا يراه حوله أو من ذاكرته. يضعها على قماش اللوحة كما تبدو أولاً، ثم يبدأ بالإضافة التي تغدو عملَه الشخصي هنا وبصمته الخاصة.

تختلط ذاكرته الفردية بما يرى ويشاهد من حوله، وتتحوّل اللوحة إلى ممرّ مزدوج لحكاية شخصية وعامة في الوقت نفسه. قوة اللون تأتي من هذه الازدواجية وهذا التركيب، من قدرتها على النفاذ والتغلغل والتحرّك بين ما هو شخصي وفردي وما هو عام.

الوجه حجّة لما خلف الوجه، وما كان قبله من زمن وأحداث مضت. إنه مدوِّن نزيهٌ لهذه الحكاية، أحياناً يبدو مثل قناع سميك وحجاب كثيف، وأحياناً يظهر كما لو كان إعلاناً عن الشخص واحتفاء دائماً به. هنا نلمس الحنان الذي يمكث خلف اللوحة، الرئة التي تفرز اللون وتحوّله إلى وجه فوق الوجه وذاكرة داخل الذاكرة.

الوجه حكاية درامية، ومهمّة اللون هنا هو إسناد هذه الحكاية بما يجعلها فناً وذاكرة شخصية مضافة إلى ذاكرة عامة. الوجه كذلك دراما لونية حارّة ومتحوّلة وخصبة، ويمكن أن يكون حيزاً للتأمل واستعادة الذاكرة الممحوّة. إنه أيضاً مكان للحنين وحيّز رحب للقاء.



اقرأ أيضاً: صفاء الست ورياض نعمة: تغريبتان تحت سقفٍ واحد

دلالات

المساهمون