الجدار الذي أتى ورحل

الجدار الذي أتى ورحل

29 اغسطس 2015
(تصوير: وكالة الأناضول)
+ الخط -

حلّ الإجهاد بفرقة مكافحة الشغب التي تحرس مبنى السراي الحكومي في بيروت على مدار يومين، الأمر الذي أوحى لقائد سرية الحرس الحكومي بفكرة أن يضع جداراً يفصل بين المبنى والمتظاهرين في ساحة رياض الصلح، لكن هذا الجدار السريع والذي لم يستغرق وضعه سوى أربع ساعات فقط، أزيل في اليوم التالي بأمر من رئيس الحكومة.

خلال الفترة المنقضية بين وضع الجدار وإزالته، توجّه بعض الفنانين والنشطاء الذين شعروا أنه يخدم قضيتهم أكثر مما يضرها، وبدأوا بالرسم والكتابة عليه، حتى تحوّل من جدار حكومي رمادي كالح اللون، إلى جدار للشعب يضج بصخب ألوان الغرافيتي وبالمطالب الثورية التي حوّلت الكلمات والرسوم إلى حقائق وأهداف أمام أعين المتظاهرين. عكس الجدار شكلين من أشكال الحياة، وجه رمادي ميت ينظر نحو الحكومة، ووجه ملون واعد وممتلئ بالحياة ينظر نحو المتظاهرين.

في الساعات القليلة التي تلت وضع الجدار في مواجهة المتظاهرين، رُسمت على قطعه الكثيرة عدة رسومات ظلت ثابتة تشير إلى أن القوى السياسية اللبنانية تأخذ لبنان إلى الكفن. رسم المتظاهرون وجوهاً سدّت أفواهها بكمامات، وعلى كل واحدة منها اسم لطرف سياسي، الأمر الذي لم يرق لبعضهم، فحاول أن يمحو كلمة حزب الله دون أن ينجح في ذلك فقد كانت الرسمة أقوى من أن يزيلها المعترضون عليها.

هناك قطع أخرى كُتبت عليها عبارات مثل: "شكراً لهذه المساحة وهذا الحائط، فهو يساعدنا في التعبير عن رأينا". الجدار الذي أتى ورحل، بسرعة احتج مع المحتجين وكان أكبرهم حجماً، ما اضطر الحكومة إلى الانسحاب ورفعه معلنة عجز سلطتها عن مواجهة سلطته الساخرة. وبعد أن أدركت الحكومة أن الجدار ما وضع إلا في وجه مزاجها العكر، قررت إزالته ليستطيع السراي التنفس على هواه مطلقاً الغازات والمياه والحقد الذي كبته الجدار لساعات.

رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام أمر بإزالة الجدار بعد أن تحول إلى معرض فني، بدعوى أنه لا يريد جداراً يفصل بين الحكومة والمواطنين، موحياً بأنه يقف ضد الدلالة الرمزية لإقامته. هنا، لا يمكننا الجزم بأن الرجل لم يكن يريد بناء جدار فعلاً، وأن القرار اتخذ من دون الرجوع إليه، فأشياء كهذه تحصل في لبنان بشكل طبيعي بسبب فوضى الحكومة وغرقها في الفساد، لكن حتى وإن إزيل الجدار بهذه الطريقة فهذا لا ينفي انتصار الغرافيتي على السلطة.

قِطع الجدار، التي يبلغ سعر الواحدة منها ألف دولار أميركي، استعارتها الحكومة من شركة خاصة ضمن اتفاقية تتيح لها ألّا تدفع ثمنها شريطة أن تعيدها فور الانتهاء منها. إلا أن هذه القطع لم تعد صالحة للإعادة، ولم تعد تنفع لبناء أسوار خانقة، إنما باتت لوحات فنية بتوقيع اللبنانيين، وربما ستغري معارض العالم لشرائها بأبهظ الأثمان، لكن من المؤكد أن السلطة لن تلتفت إلى "مساخر" كهذه، ولن يخطر ببالها بيعها، بعد أن نهبت كل شيء من اللبنانيين ولم تترك لهم سوى فنونهم وأدوات تعبيرهم.

*مسرحي فلسطيني سوري

دلالات

المساهمون