"مداريات حزينة": عالَم ليس في طريق الزوال

"مداريات حزينة": عالَم ليس في طريق الزوال

10 اغسطس 2015
كرة قدم أطفال قبيلة تاتويو، البرازيل، (تصوير: فيليب دانا)
+ الخط -

من ينسى العبارة التي تفتتح كتاب "مداريات حزينة" لعالم الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس: "أنا أكره السفر والاستكشاف". بهذا القدر من السخرية بدأ واحداً من أكثر الكتب الأنثروبولجية شهرة عن الموضوع الذي يكرهه؛ السفر والاكتشاف.

ستون عاماً منذ صدر العمل (1955)، وقد أصبح اسم مؤلفه مرتبطاً به، على وجه الخصوص، رغم وضعه أكثر من ثلاثين كتاباً ضخماً وتجاوزه المائة عام (1908- 2009).

لكتابة هذا العمل، الذي جمع بين البحث الميداني والرؤية الفلسفية المبنية على تأملات في تاريخ وحضارة البشرية، أقام شتراوس بين هنود أمازون البرازيل (يتطرّق الكتاب أيضاً إلى الهند والكاريبي)، فألّفه كأنه يحاول تقليد الذاكرة في طريقة الاستعادة والتأمّل، فجاء معقداً ومركباً ومتداخلاً في الأزمنة والأمكنة، رغم التقسيمات الظاهرية للفصول والأسفار.

جاء "مداريات حزينة" كمحاولة من شتراوس لإخراج الحضارة الأوروبية من هالة التفوّق والإحساس بالمركزية، ووضعها وجهاً لوجه مع حضارات أخرى، منتصراً في النهاية إلى فكرة جوهرية مفادها أن الحضارة الأرقى هي تلك القادرة على التحاور والتقاطع مع حضارات أخرى، بصرف النظر عن العامل التكنولوجي وعدم اعتباره عنصراً أساسياً في الرفع من قيمة حضارة ما.
يكاد يكون شتراوس هو المدخل لكل دارس للنظرية البنيوية وعلاقتها بالمجتمعات وتطور المعنى، والذي درس من خلاله في الخمسينيات، الأسطورة ونظرية القرابة (ممثلة في "نظرية التحالف" و"السفاح المحرّم")، وقدّم عنها أطروحة خاصة عام 1949، بعد لقائه بعالم اللسانيات الروسي الشهير رومان جاكبسون الذي أنشأ معه علاقة صداقة قائمة على النقاش وتبادل الأفكار.

وإن كان شتراوس قد نشأ في أسرة يهودية برجوازية، وكان جده الحاخام الأكبر لفرساي الفرنسية، إلا أن علاقة الحفيد بالديانة اليهودية كان يشوبها النفور، مثلما هو موقفه من كل الديانات التوحيدية، فقد صرّح مراراً بأنه يميل أكثر إلى الديانات التي عرفتها اليابان وخصوصاً الـ "شنتو"، التي تقدّس الطبيعة وتؤمن بتعدد الآلهة.

لكن هذا الموقف لن يحول بينه وبين ما سيتعرض له كيهودي، لا سيما إثر عودته إلى فرنسا وانضمامه إبان الحرب العالمية الثانية إلى الجيش الفرنسي الذي سينهزم أمام النازية. الأمر الذي جعله يهرب إلى نيويورك سنة 1944 (وهو يتحدث عن تلك الفترة أيضاً في الجزء الأول من "مداريات حزينة").

حدث آخر وقع لشتراوس بسبب يهوديته، وهو صرفه من العمل؛ "كيف يمكن أن تدرّس في مونبيلييه وأنت تحمل اسم ليفي؟" هذا ما سيقوله له المفتش العام في تلك الفترة.

بالمقابل سجّل مواقف شجاعة ضد إسرائيل، إذ نجده يقول: "فهمي للمسألة الإسرائيلية مرتبط بمسألة أخرى أكثر حساسية بالنسبة إلي وأقرب إلى قلبي، وأقصد بها تلك المأساة التي حصلت قبل عدّة قرون في الطرف الآخر من العالم، فهناك أيضاً حصل نفس الشيء، فقد أتى إلى تلك البلاد مضطهدون ومقموعون آخرون للاستقرار في أراض ليست لهم، أراض مملوكة منذ آلاف السنين من قبل شعوب أكثر ضعفاً من الفلسطينيين. ثم سارعوا إلى طردهم من ديارهم، وبالتالي فإنّي أشعر وكأن تدمير الهنود الحمر جرْحٌ في خاصرتي، جرح دامٍ. ولا أستطيع إلا أن أشعر بنفس الشيء تجاه العرب الفلسطينيين".

سيعود شتراوس بعد عشر سنوات من الهروب من فرنسا ليُنتخب أستاذاً في "كوليج دو فرانس"، وليشغل كرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، مواصلاً بحثه في مجال علم الإنسان والعمل الأنثروبولوجي الميداني، إلى أن تم انتخابه سنة 1973 عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وهو أعلى منصب يمكن أن يصل إليه عالم في فرنسا.

عاش فترة طويلة يعلن أن لا فرق بين المجتمعات "البدائية المتوحشة" و"المجتمعات المتحضرة"، وهذا ما سيعارضه فيه الكثيرون بدءاً من عضو الأكاديمية الفرنسية روجيه كايوا والمستشرق مكسيم رودنسون إلى تزفيتان تودوروف، فرائد البنيوية كان يرى أن الإنسان عموماً لا يعلو عن بقية الكائنات، وأن ثقافة قبائل الهنود الحمر لا تقلّ أهمية عن ثقافة مفكّري باريس، إلا أنه لم يلبث أن تراجع حماسه لأفكاره هذه، بسبب التغييرات التي طرأت على العالم لاحقاً.

كان شتراوس يدعو الشعوب إلى الانفتاح على ثقافة الآخرين دون أن تدوس ثقافاتها الخاصة، ضارباً المثل باليابان التي يراها: "تمتصّ الكثير من الخارج وترفض الكثير، اليابان هي أكبر بلد مترجِم في العالم، ولكنها لا تهضم ولا تتمثّل إلا ما يتناسب مع طبيعتها وعبقريتها التاريخية".

وانتقد أيضاً فكرة النمذجة التي ستحوّل ملامح العالم من أشكال متعددة ومختلفة إلى شكل وحيد أو أشكال متشابهة تقترب من الشكل الوحيد، ودفاعاً عن هذا التعدد، سيكتب سنة 1955 ولو بلغة متألمة ويائسة: "لم يعد بإمكاننا فعل أي شيء، فالحضارة لم تعد تلك الزهرة الحسّاسة التي نحاول الحفاظ عليها، والإنسانية اتجهت نحو الثقافة الواحدة من أجل ما يسمى بثقافة الجماهير، على طريقة نمو نبات الشوندر عندما يمتد في الحقول الشاسعة، كما سيطر الإنسان سيطرة كاملة على الطبيعة التي أُزهقت بين يديه ودمرت تدميراً سريعاً، فانعدم الاختلاف الثقافي عبر الكون".

عاش شتراوس مائة عام وأحد عشر شهراً، وكان يقول إنه يعاني من تبعات طول العمر وصعوبة الحياة في حالة كحالته، فقد قضى الفترة الأخيرة من حياته منشغلاً بمحاولة الاستمرار في العيش الصعب أكثر من استمراره في البحث الأنثروبولوجي والبنيوي.

كتب مرة: "العالم بدأ من دون الإنسان، وسوف ينتهي من دونه أيضاً، والمؤسسات والعادات والتقاليد، التي كان عليّ أن أمضي الشطر الأكبر من حياتي في فهمها وفي استكشافها وإحصائها، هي في حقيقة الأمر بداية تفتّح عابر لتكوين لا نملك تجاهه أي معنى، سوى السماح ربما للإنسانية بأن تلعب فيها دورها".

خلّف شتراوس أعمالاً أضاءت على مناطق مجهولة لكثيرين عن الإنسان والحضارات، أو بعبارة أقل طوباوية، وضعت الإنسانية أمام المرآة، ومن بين هذه المؤلفات "سكان الاستواء المساكين" (1945) و"الرجل العاري" (1971) و"انظر وأصغ واقرأ" (1973).

اتسمت معظم أعماله بالجمع بين البعدين النقدي والجمالي، وهذا ما سيجعل المفكّر تودوروف يقول عنه: "يجسّد كلود ليفي شتراوس بالنسبة إليّ إمكانية تجاوز الفصل التقليدي بين العالم والفنان، فقد عرف كيف يبيّن أن الفكر الميثولوجي ليس أقل قوة من فكر العلماء، وقد أثبت ذلك في جميع كتبه التي لا يقل جمالها عن جمال الروايات".

المساهمون