السيّد الذي عاش هنا

السيّد الذي عاش هنا

18 ابريل 2015
+ الخط -

في ذكراه الأولى، يعنُّ على البال. وتكون أنت، ليلَ أمس الخميس، استمعتَ إلى مواطنِه الروائي سرخيو أَلباريث وهو يُحاضر عن "أعماله" في مكتبة "جاوما فوستيه". تقول سأذهب، مرة ثانية، إلى حيث حلّقت روحه على الجبل.

وصباحَ الجمعة، قليلاً تمشي حتى تصل حيّ "سارّيا" الراقي بشارع "كابوناتا". وقليلاً تسأل، حتى تعثر على البيت.

لا غرو أنك أُصبت بخيبة أمل في الزيارة الأولى. فمخيالُك كان يتوقّع منزلاً غير هذه العمارة السكنية بطبقاتها الثلاث. وتقول لا بأس. المهمّ أنه عاش واستقرّ هنا مع ولدَيه وزوجته.

والأهمّ، أنّ مِن وراء مكتب تلك الغرفة الواسعة، خرجتْ للعالم واحدةٌ من أغنى رواياته بالشعر: "خريف البطريرك". كما كتب في الغرفة ذاتها خمسَ أو ستّ قصص من مجموع قصصه القصيرة الاثنتيْن وخمسين. وكان بُعيد الانتهاء من مخطوطة الرواية، غادرَ المدينة، بعد مكوثٍ امتدّ سبع سنوات من 1967 إلى 1974، لِتُنشر بطبعتها الأولى في العام التالي.
حسناً.

تحوم الآن حول العمارة، وتتذكّر أصداءً ممّا سمعتَ في الزيارة الأولى. كان آنذاك مات للتوّ، ودار كلام حول تحويل شقته إلى متحف.. "لمَ لا؟" ـ يسألون والأملُ يحدوهم. "أَلم تخصّص البلديةُ متحفاً لبطريرك التشكيل بيكاسّو، فصار كنزاً لا ينفد؟ على الأغلب سيكون متحفُ بطريرك السرد، كنزاً من نوع آخر".

بيت غابو في برشلونة


وقتَها، كان مثقفو برشلونة ومواطنوها يحكون عنه وعن نوادره وقصصه. بينما بعض الجيران، وبعض روّاد المقاهي والبارات القريبة، يُلحفون في تذكّر "السيد الذي عاش هنا".

ولما كنت أنت تجلس عن كثب، فقد أنصتّ إلى شذرات من قصص، تحتاج مَن يكتبها.
عجوزٌ أندلسي تحدّث بإسهاب عن علاقة الراحل بـ يوسّا.

"هما الصديقان اللدودان، والجيران في الشارع نفسه. ولطالما رأيتهما خارجيْن، ليتمشّيا في المنطقة".

وكيف ردّ واحدٌ عليه: "ولكن شتان بين هذا وذاك!".

"ليس على صعيد الكتابة فحسب، بل أيضاً على صعيد الموقف" ـ أكملت جليسةٌ مثقفة.

تؤمّن شابة رابعةٌ على الردّ، وتأتي بحركة من كفّها اليسرى، ثم تهمس: "ليرقُد بسلام".

تجول في الحيّ الوادع، وهبّة برْد تصفعك. تجلس على كرسيّ الطريق وتفكّر في ما اعتبرته، آنَ قرأتها، أجمل إبداعه قاطبةً: "الحب في زمن الكوليرا"، تلك الدرّة الفارقة في مدوّنة السرد.
وبما أنّ الذكرى تجرّ الذكرى، ها أنت تتذكّر كيف راكمتَ "مئة عام من العزلة" في خمس ترجمات، فلم تستطع التقدمَ في صفحاتها لأكثر من الرقم خمسين. لا تعرف لمَ، وعلى كل حال، لعلّ الخطل فيك.

وتعود إلى لحظتك الحاضرة، فلا ترى غير طيفه يخرج من باصرتك. أما حديث المتحف، فقد تبخّر كشأن أي زفير بشريّ.


(برشلونة)

المساهمون