"نقش النمارة": البحث عن امرئ القيس

"نقش النمارة": البحث عن امرئ القيس

04 مارس 2015
مقطع من نقش النمارة
+ الخط -

ظلّت مجموعة قليلة من النقوش العربية، التي كُتبت بالحروف النبطية، مرتكزاً للباحثين ومستنداً لتأصيل بداية انتقال اللغة إلى طور النضج.

كان اكتشاف "نقش النمارة" سنة 1901 ميلادية، على يد المستشرقَين الفرنسيين رينيه دوسو وفريدريك ماكلر، بداية طريقٍ لا يزال طويلاً، وإن كانت بعض النقوش المماثلة، والأقدم زمناً، اكتشفت بعد ذلك مثل نقش "الجمال الأول" ونقش "رقوش"، (يعود الأوّل لسنة 260 ميلادية والثاني لسنة 267 ميلادية)، لكن يظلّ "نقش النمارة"، هو الأكثر ثراءً وإثارة للجدل، لما يحويه من مقاربات تاريخية ولغوية.

يعود النقش إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، ويعدّ دليلاً ذائعاً على واحدة من فرضيّتين، ذهب إليهما العلماء بشأن أصل الكتابة العربية، وهي الفرضية التي تَزْعُمُ أنّ الكتابة العربية تطوّرت عن الكتابة النبطية. فيما تذهب الفرضية الثانية إلى أنّ الكتابة العربية المعاصرة، تعدّ تطوّراً طبيعياً للخطّ المسند، الذي كان سائداً في جنوب شبه الجزيرة العربية.

قدّم دوسو أوّل ترجمة للنصّ سنة 1905، فذهب إلى أنّ النقش الحجري ابتدأ بإعلام القارئ أن هذا النقش، هو شاهد قبر الملك امرئ القيس اللخمي، ملك العرب كلهم، ثم عدّد إنجازاته الحربية، وأخيراً سجّل تاريخ وفاته باليوم والسنة.

في 1985، قدّم المستشرق الأميركي جيمس بلمي ترجمةً شبيهة: "هذا قبر امرئ القيس بن عمرو، ملك العرب كلهم الذي تقلّد التاج. وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم مذحج، وقاد الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معدا، واستعمل بنيه على القبائل، ووكلهم فرساناً للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه إلى اليوم. توفي سنة 223 في 7 من كانون الثاني، وفّق بنوه للسعادة".

وكان أهل الشام وحوران يستعملون التقويم البصري، الذي يبدأ من دخول الرّوم إلى بصرى عاصمة حوران. والذي كان عام 105 بالتقويم البصري، فإذا أضفنا الرقم 223 إلى هذا التاريخ فيكون المجموع 328، وهي السنة المدونة بالنقش.


لغة الأنباط

بدا أنّ الجميع متّفقون على أنّ النصّ العربي كان مكتوباً بالحروف النبطية، فلم تكن العربية سوى لغة شفهية فرضت نفسها في شمال الجزيرة العربية، وحين احتاجت إلى التدوين لجأت إلى استعارة الأبجدية النبطية. ويشيع بين اللغويين والأثريين، أن لغة الأنباط الأصلية كانت الآرامية ثمّ تحوّلت إلى العربية.

عاش الأنباط في جنوب الأردن، منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وهناك كوّنوا مملكتهم التي كانت "البتراء" أهمّ حواضرها، وامتدّ نفوذهم ليشمل مساحات واسعة من شمال الجزيرة العربية، ومن الشام التي كانت تتحدّث الآرامية. ويرجّح بعض المحقّقين أنّ العربية، قد تطوّرت تدريجياً من الآرامية كلغة يومية في المنطقة، خلال القرون الأولى للفترة المسيحية، استناداً إلى الاكتشافات الأثرية للنقوش النبطية العربية.

هذه القراءة الكلاسيكية الاستشراقية للنقش، وقف عليها الباحثون العرب، ليستخرجوا منها عدداً من الفوائد التاريخية، فالدكتور جواد علي يقول: شمر صاحب مدينة نجران، هو "شمر يهرعش" في رأي أكثر المستشرقين، وينطبق زمانه على زمان امرئ القيس. وإذا صحّ هذا الرأي، نكون قد حصلنا على أوّل نصّ عربي جاهلي، يشير إلى حرب نشبت بين مملكة الحيرة ومملكة سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت في عهد أوّل ملك من ملوكها، وهو "شمر يهرعش" المعروف بـ "شمر يرعش" عند الإسلاميين.

بينما يذهب لويس عوض، في كتابه "مقدمة في فقه العربية"، إلى أنّ النقش يثبت أنّ امرأ القيس كان نائب قيصر الروم أو بيزنطة في بلاد العرب، وأنّه حارب أهل نجران لإخضاعهم!


قراءة جديدة

لم تتوقّف المحاولات لإعادة قراءة النقش، فالرموز الصوتية العربية التي تمّت مقابلتها بالرموز الخطية النبطية، تكشف أنّ لهجة عربية ما كانت مستخدمة، تتضمّن بعض الألفاظ القديمة، التي اختلفوا في تفسيرها، كاللفظ "تي"، الذي بدأ به النص، وهل هو اسم إشارة بمعنى "هذا"؟ أم أنّه أداة قسم؟ وهل اللفظ الثاني "نقش" بمعنى شاهد قبر أم "نفس" بمعنى روح؟ وبذا يختلف المعنى بين: "هذا نقش (أي قبر) امرئ القيس"؟ أو: "قسماً بروح امرئ القيس"؟

ثمّ جاءت قراءة الباحث العراقي الأميركي سعد الدين أبو الحَب، لتقول إنّ الحجر الأثري لم يكن شاهد ضريح "امرئ القيس" أصلاً، وإنما كُتِبَ على الأرجح بعد عدّة سنوات من وفاته، لتسجيل الإنجازات الحربية لشخص غير معروف تاريخياً، واسمه "عكدي".

ولفظ "عكدي" ذُكِرَ مرتين في النص، لكن المفسرين قاموا بتأويلات متعددة لم يكن من بينها أنه اسمُ علمٍ، وكان المرجح لذلك أن العبارة الأخيرة على الحجر تقول: "هلك عكدي سنة 223".

وقراءة أبو الحب تقول: "إنّ مستهل النص هو قسم بروح امرئ القيس، لعظم شأنه وعلو قدره. أما الفقرة الرئيسة لهذا النص، فقد تحدثت عن الهزيمة المريرة التي تكبدتها قبيلة مذحج، إحدى قبائل جنوب جزيرة العرب، على أيدي مقاتلي عكدي، والتي أدّت بالنتيجة إلى خضوع جزء من بلاد اليمن لسلطان الدولة البيزنطية. وأخيراً سجّلت خاتمة النص نعياً مُشرفاً لهذا المقاتل "عكدي" الذي وافته المنية، ربما في تلك المعركة، ودعت والديه إلى الابتهاج والشعور بالفخر بمآثر ابنهما الشجاع، جرياً على العادة المتأصّلة في تقاليد الأمم عند تأبين جنودها".

ويدافع الباحث عن نتائج قراءته بأنها تُثْبِتُ أننا أمام نصّ كُتبت مفرداته بعربية فصحى، واضحة، ذات جذور متأصّلة في أرض جزيرة العرب لقرون طويلة قبل الإسلام، مستنكراً ادعاء عموم المستشرقين أن العربيةَ الفصحى لغةٌ مستحدثة جلبها القرآنُ، أو أنها لُفّقَت في عهد الخلافة العباسية.


* كاتب من مصر 

المساهمون