محمد نجم.. مسافرٌ بيده كلارينيت

محمد نجم.. مسافرٌ بيده كلارينيت

01 ديسمبر 2014
(تصوير: فارس منصور)
+ الخط -

بدأت القصة في بلدة بيت ساحور، إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى. الطفل الذي كان يُفرض عليه البقاء في المنزل عادةً، بسبب الأحداث الدائرة في الخارج وأيام "منع التجول"، لم يكن يجد أمامه سوى أن يسمع الموسيقى، من خزانة والده المحب والشغوف بجمع الأشرطة.

وقد سُحرَ بجارهم الذي كان يعزف الناي كل ليلة على سطح البناية المقابلة. سينتهز الطفل فرصة العيد كي يذهب إلى الجار ليطلب منه تعليمه الناي، لكن الجار سيسافر بلا رجعة، تاركاً هذا الصبي يحلم حتى العام 1997، حين زفَّ له والده، الذي انتبه إلى شغف ابنه بالموسيقى، خبر افتتاح "معهد للموسيقى".

طار الصبي من الفرحة، واصطحبه والده لينتسبَ إلى المعهد الذي سيصبح اسمه "معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى"، حيث تلمّس الكثير من الآلات الموسيقية لأول مرة. من هناك، بدأ مشوار عازف الكلارينيت والمؤلف الموسيقي الفلسطيني محمد نجم. اسم سيرتبط بهذه الآلة، وسيلفت الانتباه في الأوساط الموسيقية.

بدأ عمله بالعزف مع عدة فرق، منها "تراب" و"يلالان" و"أوركسترا فلسطين للشباب"، لينتقل في العام 2005 إلى فرنسا لدراسة الموسيقى في "كونسرفاتوار أونجيه"، حيث سيتخصص بآلة الكلارينيت. هناك سيؤسس فرقة "زرياب"، قبل أن يتخلّى عنها ويقرر العودة إلى فلسطين في العام 2011، ليباشر تدريس آلة الكلارينيت.

يقول عن عودته: "لم يكن هنالك أي مدرّس فلسطيني لهذه الآلة. وفي الوقت الذي تعتمد الدراسة الموسيقية في فلسطين على مدرّسين أجانب، وجدت أنه من الواجب عليّ العودة إلى وطني، ونقل ما تعلمته إلى طلاب الموسيقى".

لكنه سرعان ما سيشعر أن عليه المغادرة من جديد، بحثاً عن مساحات وجمهور أوسع من الحدود الضيقة والمحاصرة. هكذا، لن تدوم عودته أكثر من ثلاث سنوات، ليجد نفسه مرة أخرى في باريس.

يُعلّق نجم: "غادرت لأنني أحسست بمحدودية حركتي. أجواء العمل الموسيقي غير مشجعة لأسباب كثيرة، بدءاً بالاحتلال، مروراً بضعف البنية التحتية الموسيقية، وانتهاءً بسيطرة المؤسسات على النشاطات والعمل الموسيقي الفلسطيني".

يعمل نجم في هذه الأيام على وضع اللمسات الأخيرة على ألبومه الموسيقي الأول، "الطابق الرابع"، متنقلاً ما بين باريس، مكان إقامته، وبرلين، حيث عملية "المكساج" النهائي، في أستوديو عازف الأكورديون الألماني، مانفرد لويشتر.

لقاؤنا بنجم أتاح لنا فرصة الاستماع إلى الألبوم في مراحل إنتاجه النهائية، وسنحار في تصنيفه موسيقياً. عند الإصغاء الأول إلى العمل الذي يتضمن تسع مقطوعات، قام نجم بتوزيعها موسيقياً بمشاركة الموسيقي اليوناني ديمتري ميكيليس، يخيّل لنا أن الفنان تعمّد إثبات قدراته الموسيقية. ولمَ لا، إذا كان هذا العرض قادراً على تخطي الأداء التقليدي ليأخذنا إلى مساحات وجماليات تجربة جديدة؛ إذ يلعب في ألبومه على أكثر من نوع موسيقي وإيقاعي، متنقلاً بين الموسيقى العربية والتركية واليونانية، والجاز الذي يفرض نفسه على معظم المقطوعات، من خلال ارتجالات موفّقة تلعب وتراوغ الجمل اللحنية الأساسية.

في مستهل الألبوم، تُفاجئنا المقطوعة الأولى، "باص"، بإيقاع سامبا سريع وراقص، مع مصاحبة البيانو والكلارينيت والأكورديون. أما في "الطابق الرابع"، المقطوعة التي أُعطيَ اسمها عنواناً للألبوم، فنستمع إلى نجم منفرداً بارتجال تأملي يحتل ثلث المقطوعة تقريباً. السكون الذي يفرضه تجلّي الكلارينيت، يُكْسَر فجأة بقفزة موفّقة بمرافقة الإيقاع والأكورديون.

في "وردة"، يتنقل العود والكلارينيت بين المقامات الشرقية (الحجاز والنهاوند والبيات). ويغامر نجم في "هالأسمر اللون"، ويكاد أن يقع في فخ الرتابة، رغم التوزيع الموسيقي الجيد لهذا اللحن التقليدي الآتي من فلكلور بلاد الشام، إلّا أن ارتجال آلة الكلارينيت، في صحبة الكمان والتشيلو، تمكّن من إنقاذها.

في "أشفق عليّ أيها البحر"، يستعيد الفنان أغنية من الفلكلور اليوناني وباللغة اليونانية، يتبعها ارتجال موفق وغير منضبط للكلارينيت (نوتة عالية) باعتراض وردّ من التشيلو، ما يحرّر المقطوعة من الغناء الرتيب المعتمد على جملة لحنية واحدة في مقدمتها. إلّا أن الغناء عاد ليختم المقطوعة مرة أخرى، ما قلَّص الطاقة التي حرّرها الارتجال. الموازين الإيقاعية، المكسّرة بحذاقة عازف الإيقاع طارق الرنتيسي، تتكرر في معظم المقطوعات، وتتكثف في "إزا بدك" بصحبة الكلارينيت والأكورديون.

أما في "حب لحظي"، فيعود نجم إلى البناء التقليدي للإيقاع والجمل اللحنية، لينتهي بارتجال من القانون بصحبة الوتريات. ويستعيد الفنان التراث العثماني في المقطوعة الخاتمة للألبوم، "رقصة زبقلي"، ويقدّمها بتوزيع جديد يضبطه إيقاع لافت، يلعب دوراً لا يقل أهمية عن باقي الآلات الرئيسية.

الموهبة الاستثنائية لنجم في العزف على آلته، إلى جانب التوزيع الجيد والاستعانة بعازفين موهوبين، منهم مانفرد لويشتر على الأكورديون، الذي سمعناه يعزف سابقاً مع المغنية السورية لينا شماميان، وطارق الرنتيسي على الإيقاع، وديمتري ميكيليس على البيانو والعود، يرافقهم سبعة عازفين خدموا التوزيع جيداً وأضافوا أنغاماً داعمة له، إضافةً إلى مساحات الارتجال الواسعة، واعتماد الموازين الإيقاعية المفاجئة وغير المنضبطة؛ كل ذلك شكّل عناصر قوة للألبوم.

العمل الذي أُنتِج بفضل "مشروع عبور" الذي بادر به الموسيقي الفلسطيني سامر جردات، ويسعى إلى إنتاج أعمال لموسيقيين وفرق فلسطينية، سيتم إطلاقه في مدينة رام الله بداية العام المقبل، لتبدأ بعدها جولة عروض في كل من بيروت والقاهرة وعمّان، إضافة إلى بعض المدن الأوروبية. ولا شك أن غالبية مَن أتيحت لهم الفرصة لسماع كلارينيت نجم، ينتظرون باهتمام إطلاق "الطابق الرابع"، لكن التحدي الأصعب للفنان بدأ تواً.

المساهمون